نساء باكيات
هوية بريس – لطيفة أسير
قليلٌ هو احتكاكي بعالم الرواية، وأقل منه اطلاعي على الروايات المغربية، كنتُ في صغري مغرمة بقراءتها، شغوفة بتقليب صفحاتها، فالتهمت كل قصص الروائي محمد عطية الإبراشي، وروايات عبير، وبعض روايات المنفلوطي خاصة عبراته ونظراته. مع الترقي في سلم التمدرس صار ميلي أكثر للكتب التي تُعنى باهتماماتي الدراسية، خصوصا الكتب الشرعية، لهذا قلّ اطلاعي على الروايات لكوني صرتُ أعتبرها -رغم أهميتها وقيمتها الأدبية- مجرد متنفّس أدبي يخوض القارئ غماره كلما رام الاسترخاء من عالم القراءة الجادة الصارمة.
بعد انقضاء الموسم الدراسي لهذه السنة مالت نفسي للأوبة إلى فضاء الرواية، فكانت الوجهة رواية مغربية عنوانها (نساء باكيات) لصاحبها علي أفيلال، وهو روائي مغربي مقيم بالمهجر منذ 1968، عدّ النقاد سيرته مبعثا للاستغراب، وفي نفس الآن سبيلا للفخر، إذ برع في كتابة الرواية مع أن قدمه لم تطأ قط المدرسة، بل حرص منذ أحبَّ القراءة على تأسيس كيانه الأدبي بشكل عصامي.
يقول في أحد الحوارات الصحفية: (تعلمت القراءة وأنا في سنّ الشباب، في إحدى محلات الحلاقة التي اشتغلت فيها. ومباشرة بعد تمكني من جمع الأحرف بدأت في قراءة مؤلفات كبار الأدباء العرب من جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وعباس محمود العقاد وحسين هيكل وغيرهم لا أستطيع حصرهم بالكامل.. وأيضا لشعراء فرنسيين مُترجمة قصائدهم إلى العربية).
للكاتب علي أفيلال أكثر من 20 رواية تحكي عن مواضيع الهجرة، وتسلط الضوء على تاء التأنيث، انتصارا لها في الأدب العربي عموما والرواية خصوصا، يقول معلّل هذا الاختيار: (معظم الروايات العربية التي قرأت أجد البطل دائما هو الرجل الذي يهيمن على الأحداث ويسيرها حسبما يتلاءم، وما فيه كينونته من الهيمنة على المرأة. وأنا عكس هذا التيار).
ولهذا أتت الرواية فعلا عكس هذا التيار بدءا بعنوانها (نساء باكيات)، مرورا بأحداثها التي تحكي جزءا من معاناة المرأة المغربية القروية.
أسلوب الرواية سهل سلس، تتخلله لوحات شاعرية، وسرد ممتع ومشوق، مع دقة في الوصف: وصف الشخوص، وصف المكان، وصف الحالة النفسية لأبطال الرواية وتقلبات أحوالهم من حزن وفرح ودهشة.
كما أن الرواية تحتاج من القارئ تركيزا كبيرا لتتبع أحداثها المتشابكة وشخصوها المتعددة، التي يتتابع ظهورها مع تسلسل الأحداث، قد تشعر في مطلعها بنوع من التيه وانفصام بين الأحداث، وكأنها قصص منفردة، لكن مع الغوص فيها تجد ترابطا وثيقا بين كل الشخوص والأحداث.
ابتدأت الرواية بزوجين شابين متحابين يعملان في الحقل (قدور والعسولية)، وانتهت وقد تفرقا وأخذ كلّ وجهته، وبين الحدثين وقعت أحداث جمّة، سلطت الضوء على هؤلاء النساء الباكيات.
فكان الحديث عن حادة الملقبة بخربوشة والتي (مثلت في زمانها القريب دور المرأة التي لا يخيفها ظلم ظالم ولو كان ظلم الطاغية عيسى بن عمر)، الذي لم يستسغ أن تهجوه امرأة تحترف الغناء الشعبي (العيطة) فسامَها سوء العذاب نكالا بها وانتقاما منها.
ثم مليكة المسعودي ومعاناتها مع رحال الزوج الحقود الذي اتخذها مطيّة وسعى بكل خبث لتشويه سمعة صهره وتجريده من كل (المحاسن والأخلاق التي يجله الكل ويحترمه من أجلها)، فما كان منه إلا أن دبّر مكيدة وقذف زوجته البريئة بالخيانة الزوجية مع قدور، وهي (أنقى من ريحانة يختبئ النسيم العليل بين شفاه أوراقها) كما قال الكاتب.
أما أهنية بنت الصباغ أحمد فقد مارس عليها زوجها الجشع رحمون علال أبشع أنواع الاستغلال المادي والمعنوي، انتهى بمحاولة قتلها بطريقة قذرة طمعا في الاستيلاء على ثروتها بعد زواج دام أربعة عشر سنة. تحملت خلالها جبروته وعقمه وبرودته، فكان أن كافأه بطريقة شنيعة.
صور ثلاث عكست الوضع المزري الذي تعيشه بعض النساء المغربيات في البوادي، بين استبداد الحاكم، وطغيان الزوج واستغلاله لهذا الكائن الضعيف. كما توضح ذاك الصراع الدائم بين الخير والشر، وذاك التدافع بينهما يقول علي أفيلال: (لماذا الشر والخير؟ ولماذا معول الشر أحدّ من معول الخير؟ هذا السؤال تتولى الرواية الإجابة عنه بكل خصائصها الفنية التي واكبت الإنسان عبر أزمنته الضاربة في العمق فصارت لنا هذه الأزمنة بمثابة تاريخ روائي تدرك من خلاله أن الإنسان هو الإنسان عبر أيّ حقبة كانت، وأنّ هذا الإنسان مجبول على الشر والخير، وأنّ عنصر الشر أقوى من عنصر الخير؟).
بالرواية نماذج نسائية أخرى لكنها تسلط الضوء على نوع آخر منهن، أولئك اللواتي امتهنّ العهر، وجعلن أجسادهن سلعة رخيصة تتناقلها أيدي الرجال بأبخس الأثمان وهذا ما تجسّد في (صفية) أو (صفاء).
وفي مقابل تلك النماذج الذكورية الشريرة (القايد، رحّال، علاّل) كان (قدور) على خلاف ذلك، ذاك الزوج الوفي المحب، الأمين على أهل بيته وعلى تاريخ أسرته ووصية والده، ورمزًا للنخوة والرجولة وذلك حين انتفض للدفاع عن (حليمة) بعد أن اعتدى رحال على أرضها. وكان رشيد على علّته (الطمع في العسولية) شهما حين هبّ للدفاع عن مليكة من تهمة الخيانة الزوجية دون مقابل بل لردّ الجميل لوالدها.
عنصر التشويق كان حاضرا على مدار الرواية، وتصوير مسرح الجريمة كان مثيرا، تتصاعد أنفاس القارئ في تتبع خيوط الأحداث، وتتنفس الصعداء حين يقع المجرمون في قبضة العدالة، ويأخذ القانون مجراه بعيدا عن أي محسوبية أو زبونية.
عالجت الرواية بعض مشاكل الهجرة بشكل عرضي، والمتمثلة في الزواج الأبيض، ومعاناة المهاجر المغربي اللاهث خلف الإقامة ولو كان الثمن التضحية بأسرته. فبدا (حسن) لعبة سهلة المنال بين جملة من النساء: أخت وزوجة مغربية تطمحان لتغيير الوضع المادي، وزوجة أجنبية تفننت في استغلاله وسعت لتدمير مستقبله. وهي كلودين التي كانت ترغب في (أن تنظف فضاء وطنها الحر ولو من مهاجر واحدـ فإذا بهذا المهاجر يصير وارثها، ويصير بوطنها مقيما إقامة قانونية ومع أحب امرأة إلى قلبه زوجته وأم أولاده).
وبعد أخي القارئ، كان هذا انطباعي عن رواية (نساء باكيات) وأستطيع القول أني استمتعت بقراءتها، وجذبني أسلوبها وأثارتني طريقة سردها، وزاد معها استغرابي لهذا التهميش الذي يعيشه أدباؤنا وكُتابنا المغاربة داخل الوطن وخارجه، فإلى متى سيظل مطرب الحيّ لا يطرب؟
لطيفة أسير شكرا على هذه الإلتفاتة