نعمة اللسان وخطورة الكلمة

28 نوفمبر 2025 21:41

هوية بريس – شريف السليماني

من أعظم النعم التي امتنّ الله بها على الإنسان نعمة اللسان؛ هذه القدرة العجيبة على التعبير، على إخراج ما تخفيه القلوب من فرحٍ أو حزن، من خوفٍ أو قلق، من حبٍّ أو امتعاض. ولولا اللسان لبقيت المشاعر حبيسة، ولما استطاع الإنسان أن يبوح ولا أن يفصح، ولا أن يطلب حاجته ولا أن يشرح موقفه. إنها نعمة كبيرة، غير أن اعتيادها يجعل كثيرين يغفلون عن عظمتها.
ومن أراد أن يدرك قدر هذه النعمة فلينظر إلى من حُرمها:

إلى الصمّ البكم الذين يتمنّون كلمة واحدة يعبّرون بها،
وإلى الأطفال قبل أن يتعلموا النطق، يبكون لأنهم لا يجدون لغة تشرح حاجتهم،
وإلى البهائم التي تشعر وتحب وتخاف ولكنها لا تملك وسيلة للبيان.
ولهذا قال الله تعالى:
﴿الرَّحْمٰنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾.
ووراء هذه القدرة معجزة خفية لا نلتفت إليها: كيف تتكوّن الفكرة في الدماغ؟ وكيف تتحول إلى إشارات عصبية ثم إلى حركة منظمة للسان والشفتين والأحبال الصوتية؟ وكيف يخرج الصوت مفهوماً؟ والأعجب من ذلك: كيف يملك كل إنسان صوتاً ونبرةً ولغةً ولهجةً تختلف عن مليارات البشر؟
قال تعالى مؤكداً هذا التنوع البديع:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾.
ولا يشعر الإنسان بثمن هذه النعمة إلا حين يخاف فقدانها.
تأمل أمّاً أو أباً يتأخر طفلهما في النطق، كيف يساورهما القلق وتثقل عليهما الأيام بحثاً عن حلّ. فإذا نطق الطفل، خفّ القلق… وغاب استحضار النعمة وتناساه الناس كما ينسون نعمة الهواء.

الكلمة… باب الجنة وباب النار
كما أن اللسان ضروري في الدنيا، فهو ضروري لسعادة الآخرة أيضاً.
باللسان ينطق الإنسان بالشهادتين، وباللسان يذكر الله ويحمده ويقرأ كتابه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وباللسان يُصلح بين الناس، ويُواسي، ويُعلّم، ويُنصح.
فهو باب واسع للخير لمن أحسن استعماله.
غير أن هذا اللسان نفسه قد يكون باباً للشقاء والهلاك:
بكلمة الكفر، بشهادة الزور، بالغيبة والنميمة والكذب، بالفحش والسبّ والبهتان، وبتدمير العلاقات وجرح النفوس.
وقد تهوي كلمة واحدة بصاحبها في جهنم سبعين خريفاً.
ومن هنا جاء التحذير النبوي:
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت».

الكلمة ليست ما نقول فقط… بل ما نكتب أيضاً
في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، لم يعد الكلام محصوراً في اللسان وحده.
ما نكتبه اليوم يُعدّ كلاماً، ونحاسَب عليه كما نحاسب على ما نتلفظ به.
وكثير من الخصومات، والفتن، والإساءات، وتشويه السمعة، بدأت بكلمة مكتوبة، أو تعليق مستعجل، أو منشورٍ غير محسوب.
إن الكتابة مسؤولية كالكلام تماماً:
فالكلمة حين تُكتب تبقى… ولا تُمحى بسهولة.

اللسان… أساس العلاقات الإنسانية
وللكلمة أثر كبير في العلاقات بين الناس:
كم من زوجين عاشا حياة سعيدة بسبب الكلام الطيب والتعبير الصادق.
وكم من بيوتٍ انهارت بسبب كلمة جارحة.
وكم من قلوبٍ التأمت بسبب جملة حانية.
وكم من أبناء كسبوا رضا والديهم بسبب كلامهم الطيب.
وكم من إنسان اكتسب سمعة طيبة بين الناس بسبب حسن لسانه وذوقه.
الكلمة قد تبني جسوراً… وقد تحرقها.
وقد تُشعر الناس بالأمان والحب… وقد تغرس فيهم الخوف والجفاء.
فهي ليست مجرد موجات صوتية، بل جزء من أخلاقنا وهويتنا وطباعنا.

الكلمة مرآة العقل والأخلاق
إذا أردت أن تعرف مستوى إنسان أو جماعة، فاتركهم يتكلمون.
الكلمات تكشف الفكر، وتفضح الأخلاق، وتدلّ على التربية والثقافة.
فالكلام هو السيرة الذاتية غير المكتوبة للإنسان.

محاسبة النفس… ومراجعة اللسان
بعد كل هذا، يبقى السؤال:
فيما نستعمل ألسنتنا؟
أليس من الحكمة أن نقف مع أنفسنا كل يوم، نراجع ما قلناه وما كتبناه؟
خاصة وأن الله تعالى يقول:
﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.
هل كان كلامنا في طاعة؟
هل نفعنا أو نفع غيرنا؟
أم كان في معصية أو أذى؟
هل جمعنا الناس؟ أم فرّقناهم؟
ويقول تعالى:
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.
والواقع أن الصمت – في كثير من الأحيان – خيرٌ وأحكم من كثير مما نقول أو نكتب.

ختاماً
إن اللسان نعمة عظيمة، لكنه مسؤولية ثقيلة.
وقد يكون سبب السعادة في الدنيا والآخرة، وقد يكون سبب الهلاك فيهما.
فلنحفظ ألسنتنا، ولنحسن كلماتنا، ولنجعلها نوراً وبناءً ورحمة.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
7°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة