نقد شيخ الإسلام ابن تيمية للمنطق (تابع)

24 سبتمبر 2024 11:02

هوية بريس – د.محمد أبو الفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد؛ فقد تَقَدَّم مَعنَا أَنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله انتقد المنطق في أربع مقامات، اثنان منهما يتعلقان بالتصورات، وآخران بالتصديقات، وسأعرض في هذا المقال إلى المقام الأول من المقامين المتعلقين بالتصورات.

وهو قولهم: “التَّصَوُّرَات غَيْر البديهية لا تُنَالُ إِلَّا بالحدِّ”([1])؛ فقد رَدَّ عليهم شيخ الإسلام هذا الزعم مِنْ أَحَدَ عَشَرَ وَجْهاً أذكر منها:

1-أن قولهم: “إن التصورات لا تحصل إلا بالحد” تُعتبر “قضية سالبة” -في اصطلاح المناطقة- وليست قضية بديهية، وعند المناطقة: “القضية سواء كانت سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية فلا بد لها من دليل، وأما السلب بلا علم فهو قول بلا علم، وإذا كان هذا قولا بلا علم؛ كان في أول ما أسسوه القول بلا علم، فكيف يكون القول بلا علم أساساً لميزان العلم، ولما يزعمون أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره”([2])؟!

قلت: خلاصته أن شيخ الإسلام نقض المنطق بالمنطق، وألزم المناطقة بما التزموه من حاجة كل قضية غير بديهية إلى دليل، فقولهم: “لا يدرك التصور إلا بالحد” قضية تحتاج إلى دليل، وحيث لم ينصبوا لها دليلا، فهي قول بلا علم، ومجرد دعوى لا قيمة لها في ميزان العلم.

2-أنه: “إِذَا كَانَ الْحَدُّ قَوْلَ الحَادِّ، فالحادُّ إما أن يكون قد عرف المحدود بِحَدٍّ، وإما أن يكون عرفه بغير حدّ، فان كان الأول: فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول، وهو مستلزم للدَّور القبلي([3])، أو التسلسل في الأسباب والعلل، وهما ممتنعان باتفاق العقلاء، وإن كان عَرَّفَه بغير حدّ بطل سلبُهم، وهو قولهم أَنَّه لا يعرف إلا بالحد”([4]).

قلت: توضيحه أن الحادَّ الذي وضع الحد الأول، كيف تَمَكَّنَ من وضعه لولا أنه تصور المحدود أولا بغير حَدٍّ سابق، ثم بناء على ذلك التصور وضع حَدَّه، وهذا يعني أن الحاد الأول قد حصل له تصور بلا حد سابق، فبطل ادعاؤهم أن التصور لا يدرك إلا بالحد.

3-“أن الأمم جميعهم: من أهل العلم والمقالات، وأهل العمل والصناعات؛ يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها، ويحققون ما يعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحدٍّ منطقي. ولا نجد أحدا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود، لا أئمة الفقه، ولا النحو، ولا الطبّ، ولا الحساب، ولا أهل الصناعات، مع أنَّهم يتصورون مفردات علمهم، فَعُلِمَ استغناءُ التصور عن هذه الحدود”([5]).

قلت: توضيحه أن أهل العلوم والصناعات قد حصل لهم تصور لعلومهم قبل أن يوجد المنطق الأرسطي، فَدَلَّ ذلك على استغناء العلوم عنه، سواء منها علوم الدين وعلوم الدنيا. ويؤكد ذلك ما وصلت إليه الحضارة الغربية الحديثة من تكنولوجيا وعلوم دنيوية أبهرت العقول مستغنية عن المنطق الأرسطي، بل ومنتقدة له، ومستعيضة عنه بالمنطق التجريبي كما سيأتي في مقال لاحق إن شاء الله.

4-أنه “إلى الساعة لا يُعْلَمُ للناس حد مستقيم على أصلهم، بل أظهر الأشياء الإنسان، وحده بـ”الحيوان الناطق” عليه الاعتراضات المشهورة …وقد أقروا بأن الحد الحقيقي متعذر أو متعسر، وحينئذ فلا يكون قد تُصُوِّرَ حَقِيقَةٌ من الحقائق دائما أو غالبا، وقد تُصُوِّرَت الحقائق؛ فعُلم استغناء التصورات عن الحد”([6]).

قلت: توضيحه أنه لا يوجد للمناطقة حد مستقيم سالم من الاعتراضات، فلو كان التصور متوقفا على الحد؛ للزم من ذلك عدم حصول تصور لحقيقة من الحقائق قط. وقد أقر الغزالي بعُسر الحد الأرسطي فقال: ” ‌‌الفصل السابع: في استعصاء الحد على القوة البشرية إلا عند غاية التشمير والجهد. فمن عرف ما ذكرناه في مثارات الاشتباه في الحد، عرف أن القوة البشرية لا تقوى على التحفظ عن كل ذلك إلا على النُّدور…” ([7])، ثم شرع في تفصيل مثارات الاشتباه، وبيان أوجه الاستعصاء.

5-“أَنَّ مستمع الحَدِّ يسمع الحد، الذي هو مركب من ألفاظ، كل منها لفظ دال على معنى، فان لم يكن عارفا قبل ذلك بمفردات تلك الألفاظ ودلالتها على معانيها المفردة؛ لَمْ يُمْكِنْهُ فَهْمُ الْكَلَامِ. والعلمُ بِأَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ على المعنى أو موضوع له مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّر المعنى. فمن لم يتصور مسمى الخبز والماء والسماء والأرض والأب والأم؛ لم يَعْرِفْ دَلَالَة اللفظ عليه. وِإِذَا كَانَ مُتَصَوِّراً لِمُسَمّى اللَّفْظ ومَعْنَاهُ قَبْلَ اسْتِمَاعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِف دلالة اللفظ عليه؛ امْتَنَعَ أَنْ يُقَال أَنَّهُ إِنَّمَا تَصَوره باستماع اللفظ؛ لأن في ذلك دورا قبليا، إذ يستلزم أن يُقال لم يتصور المعنى حتى سمع اللفظ وفهمه، ولم يمكن أن يفهم المراد باللفظ حتى يكون قد تصور ذلك المعنى قبل ذلك، وهذا كما أنه مذكور في دلالة الأسماء على مسمياتها المفردة، فهو بعينه وارد في دلالة الحدود على المحدودات؛ إذ كلاهما إنما يدل على معنى مفرد، لكن الحد يفيد تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال”([8]).

بيان ذلك أن مستمع الحد إذا لم يكن عنده تصور مسبق لمعاني مفردات الحد فلن يستطيع فهم الحدّ، وهذا يعني أنه قد حصل له تصور لمعاني هذه المفردات مسبقا بغير حد، فَتَصَوُّر معاني الأشياء في الأذهان يسبق العلم بدلالة الألفاظ عليها، فمن لم يكن عنده تصور للخبز مثلا، لم يمكنه معرفة دلالة اللفظ عليه… وما يقال في الأسماء مع المسميات يقال في الحدود مع المحدودات. أي: تصور المحدود يسبق معرفة دلالة الحد عليه. فبطل ادعاؤهم توقف التصور على الحد المنطقي…

6-“أنهم يقولون أنَّ للمعترض أن يطعن على حد الحاد بالنقض والمعارضة… “فإذا كان المستمع للحد يُبْطِله بالنقض تارة وبالمعارضة أخرى – ومعلوم أن كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود- عُلِمَ أنه يمكن تصور المحدود بدون الحد وهو المطلوب”([9]).

قلت: توضيحه أن المناطقة يجيزون الاعتراض على الحدود بالنقض (ببيان كونه غير جامع، أو غير مانع) أو بالمعارضة (بذكر حَدٍّ أمثل منه)، فكيف يمكن للمعترض أن يعترض على حد من الحدود لولا أنه قد حصل له تصور ذهني سابق للمحدود، استطاع من خلاله أن يتبين قصور ذلك الحد، ثم بناء على ذلك التصور اعترض على الحد المقترح، وحكم عليه بالقصور.

7-“أن يقال هم معترفون بأن من التصورات ما يكون بديهيا لا يحتاج إلى حد، وإلا لزم الدور أو التسلسل. وحينئذ فيقال :كون العلم بديهيا أو نظريا هو من الأمور النسبية الإضافية، مثل كون القضية يقينية أو ظنية؛ إذ قد يتيقن زيدٌ ما يظنه عمرو، وقد يكون بديهيا عند زيد ما لا يعرفه غيره إلا بالنظر، وقد يكون حِسِّيًّا لزيد من العلوم ما هو خَبَري عند عمرو. فان من رأى الأمور الموجودة في مكانه وزمانه كانت عنده من الحسيات المشاهدات، وهي عند من علمها بالتواتر من المتواترات، وقد يكون بعض الناس إنما علمها بخبر ظني فتكون عنده من باب الظنيات، فان لم يسمعها فهي عنده من المجهولات. وكذلك العقليات فإن الناس يتفاوتون في الإدراك تفاوتا لا يكاد ينضبط طرفاه، ولبعضهم من العلم البديهي عنده والضروري ما ينفيه غيره أو يشك فيه، وهذا بين في التصورات والتصديقات. وإذا كان ذلك من الأمور النسبية الإضافية أمكن أن يكون بديهيا عند بعض الناس من التصورات ما ليس بديهيا لغيره فلا يحتاج إلى حد”([10]).

قلت: خلاصته: أن المناطقة يعترفون أن البديهيات لا تحتاج إلى حد، والأمور البديهية أمور نسبية تختلف من شخص إلى شخص، فقد يكون غير بديهي عند إنسان ما يكون بديهيا عند غيره فلا يحتاج تصوره عنده إلى حد، وإذا تمكن هذا الإنسان من تصورها بطريقة ما من غير حد، أمكن لغيره تصورها من الطريق نفسها بغير حد. فبطل قولهم: “تصور الأمور غير البديهية لا يدرك إلا بالحد”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) هذا ما يدل عليه قول الغزالي : “قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ العلمَ قسمان: أحدهما علم بذوات الأشياء، ويسمى: “تصورا“، والثاني: علم بنسبة تلك الذوات بعضها إلى بعضها بسلب أو إيجاب، ويسمى “تصديقا”، وأن الوصولَ إلى التصديق بِالْحُجَّةِ، والوصولَ إلى التَّصَوُّرِ التَّامِّ بالحِدِّ“. (معيار العلم ص 265). قلت: هذا التقسيم للعلم، مع بيان طريق الوصول إلى كل قسم منه، يُفهم منه الحصر: حَصْر العلم في قسمين، وحصر طريق الوصول إليهما في طريقين. والذي يعنينا من ذلك حصره طريق الوصول إلى التَّصَوُّرِ في الحدّ. وهذا قصده شيخ الإسلام حين نسب إلى المناطقة قولَهم: “التصورات غير البديهية لا تنال إلا بالحد”.

([2]) الرد على المنطقيين ص 49- طبعة الريان.

([3]) الدور القبلي: تَوَقُّفُ الأَوَّلُ على الثاني، وَتَوَقُّفُ الثَّانِي على الأول، بحيث لا يكون الأول إلا بعد الثاني، ولا يكون الثاني إلا بعد الأول، وهو ممتنع باتفاق العقلاء؛ لأنه يلزم منه أن يكون الشيء قبل نفسه.

([4]) الرد على المنطقيين ص 49- طبعة الريان.

([5]) الرد على المنطقيين ص 49- 50.

([6]) الرد على المنطقيين ص 50.

([7]) معيار العلم ص 281.

([8]) الرد على المنطقيين ص 51-52.

([9]) الرد على المنطقيين ص 55.

([10]) الرد على المنطقيين ص 55-56.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M