نقطة نظام: لا إكراه في الدين.. كيف يعقل أن تفرض الشريعة؟
هوية بريس – عبد الله الشتوي
نقطة نظام: لا إكراه في الدين… كيف يعقل أن تفرض الشريعة؟
الجواب: هناك بديهيات يجب أن تستوعبها قبل أن تطرح مثل هذا السؤال.
أولا: عندما تطرح سؤالا خاطئا فلا تتوقع إجابة صحيحة، فكيف وأنت تطرح سؤالا غبيا! (سأعود للجواب لاحقا).
الثانية: هناك أمر بديهي يجب أن يفهمه جيدا دعاة (الإسلام الليبرالي) … وهي أن كل فكرة لا يمكن إلزام الناس بها لا تصلح أن تكون قانونا، وبالتالي فهي فكرة لا تصلح لأن تحكم بها دولة، فلا يقبل عاقل أن يوضع قانون يمكن لكل الناس عدم الخضوع له… هذا ليس قانونا … ربما هو موعظة.
حتى القوانين الوضعية يا أخي مجرد أفكار لشخص ما أو مجموعة أشخاص وجدت طريقها (بطريقة ما) إلى دساتير الحكم… ومع هذا لا أحد يستطيع أن يقول أنه غير مقتنع بها، وبالطبع لا يمكنك أن تواجه قاضيا في المحكمة بقولك: أنا غير مقتنع بهذا القانون… إنه لا يعجبني… أنا لم أضع هذا القانون… لقد وضعتم هذا القانون قبل أن أولد.
على العكس يواجهونك بأنه لا يعذر أحد بجهله للقانون، بل يعتبرونك المغفل الذي لا يحميه القانون!!
فلو أمكن للناس أن يتنصلوا من أحكام الشريعة كلها… فهذا معناه باختصار أنها لا تصلح للحكم…
باختصار ليس هناك قانون وهو ليس قانونا في نفس الوقت…
هل فهمت الآن لماذا سؤالك الأول غبي؟
كان يمكن أن تطرح سؤالا مثل: هل تصلح الشريعة للحكم؟ أي شريعة بالتحديد؟ كيف يمكن أن نحكم الشريعة ؟
هنا يمكننا أن نؤسس نقاشا سليما ومثمرا …
.
لكن من أين تأتي القوانين… منذ وجد البشر فالدين (باطلا كان أو حقا) هو أصل القوانين … والمجتمعات والأعراف والفلسفات المختلفة أيضا تصنع القوانين… (لا تنس… إنها جميعا تكره الناس على احترامها ولو لم يقتنعوا بها)
.
وما دام سبب المنشور هو الضجيج الذي صاحب فتح الطالبان لكابول فتفضل هذا النموذج من القوانين:
ولاية إيرانية تسعى لوضع قانون يمنع النساء من ارتداء السراويل!!
إنه طبعا قانون سخيف ومخالف للعقل والشرع و…، إنه نظام الملالي المتخلف… وقل ما شئت
لكن لحظة… لنرجع سنوات للوراء…
في باريس عاصمة الأنوار كان هناك قانون يمنع النساء من ارتداء السروايل الطويلة في بداية القرن العشرين… وتم رفض طلب إلغاء القانون سنة 1969… إلى أن أعلنت وزيرة الحقوق والحريات سنة 2013 إلغاء القانون..
الهدف من هذا المثال أمور:
– عبارات من قبيل (هذا القانون مخالف للعقل) مجرد خرافة، فبالله عليك اترك العقليات عند الحديث عن مثل هذا…
– هذا القانون وضعه علمانيون أقحاح وقانونيون أكفاء، ولا شيء فيه يخالف (الديموقراطية) فلا داعي لتلعب دور الفهيم وتطرح أفكار العلمانية والديموقراطية في مثل هذا النقاش…
– هناك أمثلة أخرى لقوانين ستبدو لك سخيفة وغبية أيضا وضعها نخبة من المفكرين والفلاسفة ممن تعظمهم وتبجل عقولهم… لكن اخترت هذا المثال لتشابه القانون الفرنسي والايراني…
– وأخيرا… لعلك استغربت من هذا القانون الفرنسي… والسبب طبعا أنك ترى أنه غير مطبق على أرض الواقع… صحيح، بعد الحربين العالميتين شهدت فرنسا كغيرها من الدول موجة من تفكك القيم المحافظة في المجتمعات وبالتالي صار تطبيق القانون أشبه بالمستحيل في الفترات المتأخرة، مع أنه كان نافذا ناجزا في فترات أخرى… بل تخللته تعديلات ناقشها نفس العقلاء الذين صاغوا أفكارك عن العلمانية والحداثة… تفاصيل تخفيفية من قبيل السماح للمرأة بارتداء السراويل في حالة ركوب دراجة او حصان أو عند الحصول على شهادة طبية… (أظنك ستجد هذا مضحكا لو كان موضوع نقاش في جلسة برلمانية).
إذن فسلطة المجتمع كما يمكنها أن تخرقا قانونا يمكنها أيضا أن تؤسس آخر… فما تراه في مجتمعك قانونا سخيفا وغريبا هو في مجتمع آخر قانون يتعاطى به الناس حقوقهم… وهذا أمر قل أن تنتبه له بعض التنظيمات المتشددة التي تحاول حسب زعمها تحكيم الشريعة…
.
قبل مدة طرحت على الصفحة هنا سؤالا: لماذا أغلب القوانين تمنع شراء الأصوات الانتخابية وتعاقب على ذلك بعقوبات قاسية ؟ لماذا يعاقب القانون شخصين عاقلين تبادلا منفعة بينها بالتراضي؟
لم أتلق أجوبة مقنعة باستثناء كلام من قبيل أن القانون يحاول حماية العملية الانتخابية وأن فتح هذا الباب يفسد العملية الديموقراطية…
الغريب أني لم أسمع كلاما من قبيل: هذه حرية شخصية، صوتي حريتي… إنه أمر بين المواطن والناخب… إنه اختيار شخصي، لا يمكن للدولة أن تتدخل في أصوات الناس… و… و…
السبب أن الناس انطبع في نفوسهم تعظيم العملية الانتخابية فتقبلوا من الدولة سن قوانين تحميها… ولو انطبع في نفسك تعظيم الشريعة لما رأيت أي إشكال في سن قوانين تحميها …
ذات مرة قال لي شخص أُمّي -لكنه لا زال يحتفظ بحسّ سليم- حاولت إقناعه بأن شراء الأصوات عمل قبيح: القانون يمنع الناس من بيع أصواتهم الانتخابية لكنه يسمح لهم ببيع أعراضهم (الدعارة)!!
لقد أفحمني..
هل تعرف سبب غياب هذه الاعتراضات على مثال (بيع الاصوات)؟
إنها بنية العقل الحديث الذي هندسه الإعلام ونحتته الدولة العصرية بسلطتها… فلن تجد أحد يتساءل لماذا أنا ملزم بدفع الضرائب ولماذا أحتاج رخصة لأبني بيتا… (هناك كالعادة من سيعترض فقط عند فرض الزكاة… بحجة أنه ليس مقتنعا بعد بجدوى هذا النظام الاقتصادي).
قبل مدة كانت هناك ضجة حقوقية تعترض على اشتراط بعض الفنادق عقد الزواج في استقبال رجل وامرأة… لماذا يقيد هؤلاء الفقهاء الأشرار حريات الناس؟ جعجعة عن الحقوق والحريات… نفس الأشخاص لن يتساءلوا أبدا: لماذا يوقفني شرطي ويطلب مني رخصة السياقة؟ لماذا يجبرني على دفع تأمين السيارة؟ لماذا تهددني الدولة بالسجن إن لم أفعل؟
لحظة… هناك فرق بين الأمرين: الدولة تحتاط لنفسها أما الفقه فيحتاط لأعراض الناس وأنسابهم… لكن الدولة تجبرك بسلطتها على أن ترى الحرية في جزئيات محددة وتحجب عنك رؤيتها في أماكن أخرى…