نوحٌ عليه السلام … التحدي الأكبر: دروس في الثبات والتوكل على الله
هوية بريس – الدكتور علي الصلابي
كان نوح عليه السلام لما واجهه قومه بالأذى واتهموه بالجنون والضلال وسخروا منه، وأساؤوا الأدب معه وتوعّدوه بالرجم وغير ذلك، تحدّاهم أكبر التحدي، حتى قال بعض أهل العلم: إن معجزة نوح – صلوات الله وسلامه عليه – تتمثل في ذلك التحدي الذي تحدى به قومه.
قال تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ﴾ (يونس: 71- 73(.
ويظهر من النصِّ القرآني توجيه الله عز وجل للرسول محمد صلى الله عليه وسلم بأن يتلوا على كفار مكة في أواسط العهد المكي هذه القصة؛ تعريضاً بأنهم قاربوا بأفاعيلهم ضدّ الرسول والذين آمنوا معه المرحلة التي يلائمهم فيها أن يوجه لهم مثل هذا التحدي الذي وجهه نوح – عليه السلام – لقومه، فإن لم يكفهم هذا التعريض تحداهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بمثله صراحة، وهذا من بدائع أساليب التربية والتوجيه غير المباشر، فلنتابع فقرات النص بالتدبر.
أي: بعد طرح المناظرات التي اشتملت عليها سورة “يونس“ قبل هذا النص، اتل عليهم يا محمد نبأ نوح، زمن قوله لقومه: يا قوم: “إذ“ظرفية، وهي بدل اشتمال من “نبأ“ كذا قالوا، وأرى أن “إذ“ ظرف عامله محذوف تقديره كما يلي: واتل عليهم نبأ نوح الكائن إذ قال لقومه: يا قوم.
أمر الله نبينا أن يتلو على قومه المعاندين الذين يشبه حالهم حال قوم نوح في العناد والإصرار والاستكبار، وأن يتلو من نبأ نوح هذا المشهد وهذا القول منه، لقومه يقول لهم: إن كان ثقل عليكم وشق على نفوسكم مقامي فيكم مذكراً واعظاً زاجراً ناهياً، وتذكيري إياكم بآيات الله سواء ما نزل في كتابه من تعاليم ووصايا أو آياته الكونية المذكرة به، والمحذرة من عقابه.
أي: فأقول لكم على الله وحده لا غيره توكلت في أن يُحبط ما تكيدون وتدبّرون وينجيني منكم، ينزل بكم عقابه، ويُلقي عليكم عذابه، دلّ على الحصر تقديم المعمول “على الله“ على عامله “توكلت“، وإذ توكلت على الله وحده لا شريك له:
أي: فأحكموا كلّ أمركم الذي تستطيعون تدبيره وإحكامه، باتفاق عام تُجمعون عليه متّحدين، وادعوا كل شركائكم من دون الله، ليجمعوا أمرهم ويشدّوا أزركم، ويمدوكم بقوى من عندهم من الجن والإنس والأصنام التي تدعونها من دون الله تبارك وتعالى.
أي: ولا يكن أمركم الذي تُجمعون عليه للتخلّص مني تدبيراً مبهماً لا تعرفون كيف تنفذونه، ولا يكن أمركم تجاهي كرباً ضاغطاً على صدوركم، لا تعرفون كيف تنفسون، فإني أعلن لكم هذا التحدي لتواجهوني بما تدبرون من كيد ضدي صراحة وعلانية، وبذلك تخرجون من غمة الحيرة والتردد.
أي: وبعد أن تجمعوا أمركم وتدبروا كل مكايدكم وتتريثوا حتى تتأكدوا من أنكم قادرون على التخلص مني دون أن تتعرضوا لأية مشكلات، اقضوا وامضوا ما دبرتم من أمر، سواء إعدامي أو رجمي، افعلوا ما تشاؤون.
أي: ولا تهملوني لحظة واحدة، مهما ظهرت لكم دواع لإمهالي، وهذا غاية في التحدي، لكن من كان مثل نوح عليه السلام، وقد توكل على الله وحده لا شريك له ضامن من ربه بتوكّله عليه وتحدّيه لقومه، أن ينصره ولا يخذله، وأن يردّ كيد أعدائه في نحورهم، وأن يعيذه من شرورهم.
إنَّه الإيمان بالله وحده الذي يصل صاحبه بالله القوي العزيز، فليس هذا التحدي تمرداً ولا تهوراً، بل هو تحدي بالله وثقة في حفظه ونصره وعونه المسيطر على هذا الكون بما فيه وبمن فيه، فأين القوى الهزيلة الفانية أمام قوة الله وجبروته وعزته التي يعتصم بها نوح عليه السلام.
أي: فإن توليتم على الاستجابة لما دعوتكم إليه، فأدبرتم وأدرتم لبلاغاتي ظهورَكم، وتوليتم أيضاً عن إجماع أمركم على التخلص مني بالقتل، فاعلموا أني ما سألتكم على الخير العظيم الذي حملته لكم من أجر، حتى يكون توليكم ونفوركم مني اتهاماً لي بالمصلحة الشخصية عندكم، وتخلصاً من بذل الأجر لي، واعلموا أنه ما أجري الذي هو مقرر لي إلا على الله الذي أرسلني إليكم لأبلغكم رسالاته، واعلموا أني مثلكم مأمور من قبل ربي أن أكون واحداً من المسلمين.
وبعد عرض هذا التحدي الذي تحدى به نوح عليه السلام قومه، إذ اقتضت المرحلة التي نزلت فيها سورة “يونس“ ذكر هذا التحدي على طريقة التعريض لمشركي مكة، أبان الله عز وجل عاقبة قوم نوح ليكون التذكير بها موعظة وعبرة للمشركين.
أي: فكذّبوه وتوعّدوه بالرجم هو ومن آمن معه، إن لم ينته عن متابعة دعوته كما جاء في سورة الشعراء السابقة نزولاً، فحكمنا عليهم بالإغراق، وأمرنا نوحاً بصنع الفلك، وأنجز نوح عمله، وبدأت بوادر الطوفان، وأمرناه بأن يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين، وأهله ومن آمن معه، وركبوا وجرت بهم الفلك ونجيناه ومن معه.
وجعلناهم خلفاء ورثوا الأرض، وخلفوا من أهلكوا، فكانوا خير خلف لشر سلف.
وماذا كانت نتيجة الكافرين؟ بيَّنت هذه الكلمات الكريمة ما حلَّ بالمكذبين، بأن الله أغرقهم وعبَّر عن إغراقهم بنون العظمة، وعبر عن المكذبين بالاسم الموصول “الذين“ وصلته “كذبوا بآياتنا“؛ ليسجل حيثية حكم الإغراق واستحضار جريمتهم، وأضاف الآيات العظيمة إلى نون العظمة ليدلل على عظمتها، وعظمة من ساق الآيات وأوقع على الكافرين الغرق والهلاك .
وفي هذه الآية يتبيَّن التنبيه على عظمة تحدّي الرسل، فمن اعتبر بها اتعظ وخاف مغبة التعرض لهم بسوء، ويكتشف متدبر هذه الآية أنها ترمي إلى عدة أهداف: ففيها تحذير للكافرين من أن يتعرضوا لمثل ما تعرض له قوم نوح، وفيها توجيه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم بأن باستطاعته إن شاء أن يتحدى المشركين مثل ما تحدى نوح وقومه، وأن يتوكل على الله فإن الله سينصره كما نصر نوحاً عليه السلام والذي آمنوا معه، وفيها تطمين لقلوب المؤمنين مع الرسول صلى الله عليه وسلم بأن عاقبة أمرهم أن ينصرهم الله وينتقم من مضطهديهم.
المصادر والمراجع: