ن والقلم
هوية بريس – مصطفى بوحسين
إذا أردتَ أن تقيس مِقدار ذكَاء مُجمتع معين، فانظر معدل قراءة الفرد الواحد منه، وخُصَّ نظرتك ببذرة الفُتوة وخطِّ الشباب الناشئ، وانظر فاعلية القراءةِ في انتاجاته وإبداعاته، ثم انظُر حركة الكتابة وكيف تأخذ منه نصِيبها في جدول أعمَاله ومساره!
في تعريفه للكتابة وسم أبعادها، يقول ابن خلدون في المقدمة: هي رسومٌ وأشكالٌ حرفية تدل على الكلماتِ المسموعة الدالة على مَا فِي النَّفسِ.
وهو ما يعني أن الكتابة هي المنفذُ الوحيد لترجمة ما يعتمل في النفس والفكر، وماتهمهمُ به الرُّوح ويسبح فيه الوجدان، كما أنها الآية المفصحة عما يقبع داخل الجوهر الانساني كما يحيل إلى ذلك ابن خلدون.
فأمة لا تقرأ ولا تكتب، -أولا تُحسن ما تقرأ وما تكتب- لا يمكن بتاتا أن ترى لها بصيصا مِن إشعَاعٍ ونورٍ وأملٍ في مختلف مناحي الحياة، لا في جانبها الحَضاري ولا الفِكري ولا السياسي ولا الاقتصادي ولا الاجتماعي ولا البشري عُموما.
وإنك إذ تتأمل واقع الأمة وتنظر فيه نظرةَ فحص وتَجرد، تُلْفِ أمة تناست أولَ أمر رباني وُجِّه لها ولنبيها في مُستهل دستورِ العدالة الأول (اقْرَأْ بِاسمِ رَبِّكَ الذِي خَلَق)، ثُم يلفِتُ انتباهَ قلبِكَ ويَخطفُ خاطِرَةَ رُوحِك أنَّ السورة التي تلتْ سُورة اقرأ هي سُورة القَلَم!، وَهو تتابعٌ ليسَ عبثا أو مصادفةً وحاشا ربي أن ينزلَ العثب في كتابه أو تجري أمورُ التنزيل على غير مراده، بل هو تتابعُ ينطوي على حِكم ورسائلَ لهذا المخلوق الذي سخر الله له كُل شيء ووضعه بين يديه، لِيدرك أن أمر تقدمه وَسيادته وعزِّه وعزته إنمَا سبيله القراءةُ المُجدية النافعة المتبصرة، ثم الكتابَة التِي بها التبيينُ والتصحيحُ والارشاد لتقويمِ المسار وضبط الوجهة، فحياةُ الأمةِ وعزَّتها في عين نُونِها (ن والقلم)، والعظيم – جل شأنه – لا يقسم إلا بعظيمٍ وبما له شأنٌ وقدر ومكانة ودور فعال في نهضة الأمة ورِيادتها وازدهارها ومجد دينها ودنياها.
وهذا ما يدلل عليه ابن القيم –رحمه الله– بكلام في دقة الاتقان، إذ يقول في كتابه التبيان في أقسام القرآن، موضحا حكمة القسم بالقلم، ودوره وتأثيره في حياة الأمة ومسارها:
{وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} فأقسم بالكتاب وآلته وهو القلم الذي هو إحدى آياته وأول مخلوقاته الذي جرى به قدره وشرعه، وكُتبَ به الوحي وقُيِّد به الدين وأُثبتت به الشريعة وحُفظت به العلوم، وقامتْ به مصالح العباد في المعاش والمعاد، فَوطدت به المَمالك وأُمنت به السبل والمسالك، وأقام في الناس أبلغ خطيب وأفصحه وأنفعه لهم وأنصحه، واعظاً تشفي مواعظه القلوب من السقم، وطبيباً يبرئ بإذنه من أنواع الألم، يكسر العساكر العظيمة على أنه الضعيف الوحيد، ويخاف سطوته وبأسه ذو البأس الشديد، بالأقلام تدبر الأقاليم وتساس الممالك.
فليت شعري لو أعدنا للقلم كل هذه الأدوارَ الفاعلة المؤثرة، وأحيينا في وجدان شبابنا هذا النبضَ الخالد، وقرَّبنا للفُهوم أهميةَ الكتابة المنتجة وضرورتها في الحياة الانسانية، فمن شباب الأمة من لا يجيد القراءة بله أن يجيد لك الكتابة!، وليس هذا عن ضعف أو انتكاس في العقل العربي، وإنما هي الغفلة الغارقة التي تنسي المرء موقعه في الحياة ودوره فيها ورسالته الموكلة إليه منذ استهلاله، فينتهي الأمرُ إلى التبلد وسيطرة الخمول والكسل، وتفقد الأمة سواعدَ شبابها التي عليها المعول في نهضتها، وبفقد ذلك يندثرُ عطاء ذلك المشهد المبتهج الذي يضم العرب إلى لغتهم الأم ومحضنهم الأساس، وما ذلت لغة قوم وتدنت –استعمالا وتجديدا- إلا وذل شعبها وأهين واستعبد كما يقول الرافعي -رحمه الله-.
فنحتاج عودةُ صادقة إلى المجد الأول، وربط الحاضِر بالماضي لاستنباط العبر والحكم، ومعرفة ماضي الحال واستجلاء واقع المآل، ونفض الغبار عن هِمم أشلها الكَسل وتغلغل فيها الخمول، لصقلها من جديد وبري حروفها التي قيدها صدأ الغفلة، لنَبث في شباب الأمة روحَ القراءة والكتابة بما يسهم في تطور المجتمع الإنساني، ونحيي فيهم نخوة العروبة المسلوبة والاعتزاز بلغة خطابها التي ما كان العربي يرفع قدره بين قومه إلا بقدر رفعته فيها وضبطه لأصولها وأسالبيها.