هدم الشريعة بمقاصد الشريعة

18 ديسمبر 2025 15:49

هوية بريس – د.عبد الحميد بنعلي

من بين سائر العلوم الشرعية لا نجد علما تعرض للتحريف والتخريف والهذيان مثل (مقاصد الشريعة)، حتى -لغلبة الراكبين عليه- صار الأصل فيمن يشتغل به من أهل العصر متهما في دينه حتى تثبت براءته.

وهناك جملة أطروحات علمية تعرضت للمقاصديين الجدد واستقرأت شبهاتهم وبينت أهدافهم وناقشتهم بما لا مزيد عليه مثل رسالة الدكتور سعد بن مقبل العنزي عن الاتجاهات المعاصرة في مقاصد الشريعة وغيرها كثير.

يتميز هؤلاء المقاصديون بجملة من الصفات تكاد تطرد فيهم، وهي:

1- ليسوا من أهل العلم المبرزين، بل طبقة من المثقفين بعلوم الشريعة ثقافة عامة.

2- ليسوا من أهل (المتانة) في الدين، بل يتضح من سلوكهم استخفافهم بحدود الشرع وأحكامه.

3- جل كتاباتهم المقاصدية تهدف الى تحريف الدين، وليس فيها شيء يدعو الى الحفاظ على الدين ومعالمه وحدوده.

4- لا يخضعون في كتاباتهم وأبحاثهم لقواعد البحث الشرعي ومنهاجه المتبع، بل إنما يمتحون من (العواطف) ومخرجات الاتفاقيات الدولية والمنظمات الحقوقية.

5- القاعدة العامة لتأويل النص القاطع عند هؤلاء المحرفين هي (تحيين) هذا النص، وجعله خاصا بزمان النبوة حيث لا يسعفهم الخلاف بالتمسك بالشاذ من الرأي، والا فإنهم ان ظفروا بخلاف استمسكوا به ولو كان مجمعا على طرحه.

6- جل هؤلاء المقاصديين لا يهمهم إصابة الحق ونصره بقدر ما يهمهم تحقيق مآرب نفعية من تحريف الملة، فلذلك يغلب عليهم الظفر بمناصب دينية عليا، ولا تكاد تجد فيهم من هو معوز أو متوسط إلا أن يكون في طريقه لنيل المكاسب المبتغاة.

7- لا يجمع هؤلاء المقاصديون مذهب أو حزب أو نحلة، فتجد فيهم من هو من الاخوان المسلمين، ومن يزعم أنه سلفي، أو أشعري وماتريدي وصوفي وحتى لاديني!!
—————————————-
لنأخذ مثالا على هذيان هؤلاء النفعيين:

يقولون إن مقصود الشرع من القصاص هو الردع، ونحن يمكننا أن نردع عنه بغير القصاص، بل بالسجن والعقوبات البديلة والاصلاح !! فيكون حكمنا اذن مطابقا لمقصد الشرع في الردع، مع تأيده بمقصد اخر، وهو: رغبة الشرع في احياء النفوس، وعدم اهدارها كلما امكن اصلاحها!!

يُنتج هذا: أن فرض السجن بدلا من القصاص عقوبة شرعية وليست وضعية كما جاء في الخطبة البئيسة.

وللرد على هذا الهذيان أسجل ما يلي:

1- ليس مقصود الشرع من القصاص هو الردع فقط، بل جملة مقاصد اخرى تضاف إلى الردع، وهي: إقامة العدل بين القاتل والقتيل، فكما أعدم هو حياته يعدم هو أيضا، وهذا هو العدل الذي قامت به السماوات والأرض {من يعمل سوءا يجز به}. ولذلك عرف الفقهاء القصاص بأنه (أن يُفعل بالجاني مثلُ ما فَعل بالمجني عليه).

الثالث: تسكين غيظ ذوي القتيل وإذهاب حنقهم جراء ما نالهم من قتل قريبهم.

الرابع: سد ذريعة الثأر الذي يتفاقم ويتجاوز القاتل إلى ذويه وعشيرته.

الخامس: تكفير خطيئة القتل العمد، فإن الحدود تجمع بين الزجر والجبر، وهي مكفرات للخطايا كما جاء في الحديث الصحيح “فمن أصابه حد منها كان كفارة له”.

ولكن أعداء الإنسانية لا يدركون هذه المعاني، ولن يدركوها طالما اتخذوا من الإسلام عدوا لدودا.

2- سبب القصاص ليس هو الردع، إنما الردع (حكمة) وهي علة العلة كما يقال، وإنما العلة الموجبة هي (القتل العمد العدوان) لأنها وصف منضبط بخلاف الردع، فقد يوجد وقد يتخلف، ولو قدر أن القصاص لم يردع فواجب تطبيقه، ثم البحث عن سبب تخلف حكمته مثل اباحة الخمور وعدم الاخذ على يد الظالم وغير ذلك.

3- قولهم إن القاتل يمكن ردعه بإصلاحه وسجنه، هذيان لا معنى له، لان مقصود الشرع ليس ردع نفس القاتل انما غيره من أصحاب النفوس المريضة أما هو فقد حكم الله عليه بالاعدام الا ان يعفو عنه اولياء الدم.
ث

م إن السجن لا يردع مجرما بحال، بل هو غاية مطلبه، ومنتهى أمله، اذ يجد فيه مأوى بالمجان، ومعاشا بالمجان، وصحبة مؤنسة، وشلة مناسبة، وانما يكون السجن عقوبة للابرياء فقط، ولا يمكن انكار هذه الحقيقة لأن انكارها مكابرة، والواقع شاهد بصدقها.

4- تأملت هذه العقوبة أعني عقوبة السجن، فوجدتها مضرة بالقاتل أكثر مما هي نافعة له، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أنها عقوبة لا تكفر عنه خطيئته، فالكفارة حكر على القصاص وحده، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الحدود عامة: “مَن أصَابَ مِن ذلكَ شيئًا فَأُخِذَ به في الدُّنْيَا، فَهو له كَفَّارَةٌ وطَهُورٌ” (صحيح البخاري).

وهذا هو السبب في حرص جماعة من الصحابة أن تقام عليهم الحدود، كما صنع ماعز والغامدية وامرأة من جهينة وغيرهم، فإنهم جاؤوا الى النبي صلى الله عليه وسلم وأصروا عليه أن يطهرهم بإقامة الحد عليهم، ولم يريدوا أن يلقوا ربهم بهذه الذنوب العظيمة.

الوجه الثاني: أن عقوبة السجن لا تسقط حق أولياء الدم في المطالبة بالقصاص، ولا تبرئ ذمة القاتل من التبعات، ويظل هذا الحق دينا عليه ولو قضى في السجن 100 عام.

الوجه الثالث: أن هذه العقوبة تضر بالقاضي أيضا غاية الضرر، فإنه مسؤول عنها لا محالة أمام الله سبحانه، يسأل لماذا قضى بالسجن ولم يقض بالقصاص؟، ولن ينفعه أن يقول: أنا عبد مأمور، لأنه يقال له: أنت عبد لله وحده، وقد أمرك بالقصاص لا بالسجن، وهذا حرج شديد يقع فيه القضاة ولا حول ولا قوة إلا بالله!.

(وأنا هنا أقدم مخرجا لهؤلاء القضاة لعله ينفعهم إن شاء الله تعالى، وهو أن يسعى القاضي جاهدا لرضى أولياء الدم بعقوبة السجن، فإن الحق لهم، فبأي شيء رضوا فإن الله يرضى به، سواء بالعفو الكلي أم بالعفو عن القتل إلى السجن، أم بالدية).

الوجه الرابع: أن عقوبة السجن ليس فيها دية القتيل، وهذه كارثة أخرى، فإن الدية لو فرضت على القاتل، وتقبلها أولياء القتيل، لكان قبولهم لها إسقاطا لحقهم في القصاص، وبالتالي يكون السجن مشروعا ولا بأس فيه.
————————————-
5- وسائل تحقيق المقاصد الشرعية على نوعين:

أ- وسائل توقيفية قطعية الثبوت والدوام مثل الحدود الشرعية وجميع المحرمات، وسائر الواجبات وتشريع أمهات الفضائل، والمنع من أمهات الرذائل وما اشبه ذلك، فهذه لا يجوز تغييرها وتبديلها بحال، واستحلال ذلك ردة صريحة عن الاسلام.

خذ مثالا على هذا: التحقق من نسب المولود، حيث جاء الشرع باضافته الى صاحب الفراش حتى لو قامت الشواهد العقلية على انه ليس له مثل سفره الطويل والاتيان به لاقل من اربع سنوات من بعد الموت او الطلاق، فمقصود الشرع هنا هو (الستر) و(حفظ النسب) و(رعاية الولد) ولذلك لم يلتفت لشواهد العلم والعقل.

ومثال آخر: التحقق من خلو الرحم من الحمل، انما هو في الشرع بالعدة، فلا يجوز اسقاط العدة باللجوء الى الكشف الطبي مع انه مصيب 100%

مثال ثالث: لحم الخنزير محرم لرجسه ومضرته، فلا يباح بازالة الاجزاء المضرة فيه، وكذلك الخمر لا تباح بتخفيف سكرها، ولا يباح ما حرم الله بسلامة القلب وصحة النية!!

ب- وسائل اجتهادية منوطة بالمصلحة واختلاف الاحوال، وهذا هو المجال العفو الذي سكتت عنه الشريعة وفوضت امره الى أهل العلم العدول، فليس بالناس بأس ان يحققوا مقاصد الشرع فيه بتشريع القوانين التي تحقق العدل والمصلحة ولا تعارض شرعا مبرما وحكما محكما.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
15°
16°
الجمعة
16°
السبت
15°
أحد
17°
الإثنين

كاريكاتير

حديث الصورة