هكذا قرأتُها في «أيام من حياتي»
ذة. لطيفة أسير
هوية بريس – الإثنين 30 نونبر 2015
بناء الشخصية السوية لا يستقيم إلا إن كانت لَبِنَات تأسيسه قوية وسليمة، وسيدة المقال اليوم كان لها من الاستواء ما عزّ نظيره في زمن اعوجاج القيم والشخوص، ومن البطولة ما نذَر صِنْوُها. كيف لا وهي سليلة النسب الشريف لفاروق الأمة، وثمرة بيتِ علْم ودين، تشرّبت روحها كل القيم الدينية السليمة، وباءت بعزة نفس وشرف قدرٍ تُغبط عليهما.
إنها زينب محمد الغزالي الجبيلي أو كما كان يحلو لوالدها أن يناديها ” نُسيبة ” تيمنًا بالصحابية الجليلة نسيبة بنت كعب -رضي الله عنها-، وكأنه بهذا اللقب بثَّ فيها روح النضال والاستماتة في الدفاع عن الحق إلى آخر رمق في حياتها. و هيأها بما وفّره لها من تربية أن تكون رمزًا من رموز القيادات النسوية المنضبطة بضوابط الشريعة، ولعل من يقرأ سيرتها الذاتية ”أيام من حياتي” تتضح له ملامح هذه الشخصية القيادية الثائرة على الاستبداد، المجاهرة بالحق في وجه الطغيان.
وقد جاء كتابها ” أيام من حياتي ”استجابة لدعوةِ مَن حولها للتأريخ لحقبة مهمة في تاريخ الدعوة الإسلامية كشاهدة إثبات على تلك الأحداث الدامية التي تعرضت لها جماعة الإخوان المسلمين في العهد الناصري، ومن عاش الحدث ليس كمن سمع به. تقول رحمة الله عليها: (إيمانا منا بأن فترة سجننا وتعذيبنا هي من حق التاريخ، ومن حق الذين على الطريق أن يعوها ويدرسوها حتى يبقوا على طريق الجهاد، ولا تتحول قضيتهم إلى سفسطة كلامية، وحديث ترف وقصة تاريخ، إيمانا بهذا كله نزلتُ على رأي المخلصين من أبنائي وإخواني، واستعنتُ بالله سبحانه وتعالى في جمع ما احتوته ذاكرتي مما كان. وإن كان من الصعب أن يستعاد بوصفه ونمطه).
ولأن التاريخ كثيرًا ما يعيد نفسه، لا تملك أخي القارئ وأنت تتابع فصول الحكاية إلا أن تستغرب حجم التماثل في الأحداث بين حقبتي عبد الناصر والسيسي، المعاناة نفسها.. الاضطهاد نفسه.. سيناريو الأحداث نفسه الذي مرّ به الإخوان في العهد الناصري، أعاد السيسي رسم خطوطه مجددا، ولكن بمأساوية أشد وأساليب أكثر خِسّة.
ولعشقي لتلك النماذج النسائية المكافحة التي تعيش لغيرها أكثر مما تحيا لنفسها، أحببت سبْر أغوار هذه الشخصية المناضلة وتقصّي ملامحها من خلالها سيرتها الذاتية بعيدًا عن أيّ تراجم أخرى، فليس هناك تعبير أصدق من السرد الذاتي حين يروي أحداثه لسان صادق.
زينب الشخصية الإيمانية:
أكثر ما يثير الانتباه في هذه السيدة تدينها واستمساكها بعروة ربها الوثقى، وهذا ما أكسبها عزة نفس وإباء وثباتا على مبادئها وقيمها رغم المحن والمغريات الشديدة التي كانت تحفها. فقد رفضت الانضمام للحزب الاشتراكي مقابل عدم حلّ المركز العام لجماعة السيدات المسلمات الذي كانت رئيسته وقالت بكل ثقة: (لا والله، شُلّت يدي إذا وقَّعتُ يوما على ما يُدينني أمام الله.. إنّ الذين غمسوا أيديهم في دَم الموحدين خصوم لله وللمؤمنين). كما ضربت بكل المساومات التي عرضتها عليها المخابرات عرض الحائط، وأبتْ أن يستعيد المركز نشاطه مقابل التفريط في مبادئها وقيمها وأعلنتها صراحة أمامهم (إن الذين يتكسبون بالإسلام لا يستطيعون خدمته). بل عُرض عليها منصب رئيسة الشؤون الاجتماعية وتمويل الجمعية من النظام الناصري لكنها رفضت بكل أنفة و إباء.
ورغم قسوة التعذيب وكثرة المضايقات التي عانت منها أيام اعتقالها، إلا أنها كانت شديدة الحرص على أداء الصلاة، مواظبة على أذكارها، حريصة على تبليغ الدعوة والجهر بمبادئها، بل إن زادَها الإيماني كان خير معين لها في محنتها تلك، فقد وجدت في ذكر الله أجمل سلوى وخير ضماد لجراحها النازفة، كانت تَسْبح مع تسبيحها لربها لتتعالى على سياط الجلادين، بل إن هذه المعية الإلهية جعلتها تستأسد ذات مرة فتصرع – وهي الأنثى- ذاك الذئب البشري الذي كان ينوي افتراسها فتقول: ” أنا التي تتربع على قمة الألم، والتي مزقتها الجراح التي حفرتها السياط في كل موضع من جسمها! أنا التي غلّفها الإعياء من كل الزوايا.. تصرع هذا الوحش الذي أمروه بأن يفترسني… لقد بث فيّ الله -جلّت قدرته- قوة غريبة صرعت هذا الوحش!!” و لأن أهل الإيمان الحق موضع الأسرار الإلهية والكرامات الربانية، فقد شهدت الحجرة 24 كرامة أخرى للسيدة زينب، حيث ظلت لثلاث ساعات محاطة بالكلاب تنهشها، ورغم ذلك لم تنل منها شيئا ولا مزقت فيها ثوبا.
ولَئِن كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مُنية كل مسلم في الدنيا، فإن السيدة زينب بما حباها الله من صدق إيمان ويقين امتنّ الله عليها بهذه المنة أربع مرات وهي في محنتها بالزنزانة، فكانت سُقْيا رحمة بلّلت الروح وأنعشت الفؤاد وضاعفت من عزيمتها في مواجهة الباطل، كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم يناديها باسمها الذي بشهادة الميلاد (زينب غزالي) قائلا لها: “أنتم يا زينب على الحق، أنتم يا زينب على الحق، أنتم يا زينب على قدم محمد عبد الله ورسوله”.
وتوالت البشارات على هذه الروح الطيبة، فزفّ لها المولى سبحانه رؤيا أخرى انتشلتها من أوجاعها، وحلقت بها في تلك الفضاءات الماتعة، تقول رحمة الله عليها: “أخذتني سِنة من النوم، وأنا على هذا الحال، فإذا بخلْق جميل، يرتدون حُللا من الحرير، مزركشة، داخل مخملات مطرزة بالذهب، ويحملون صِحافا من الذهب والفضة عليها ما طاب من الأطعمة من لحوم وفاكهة لم أرَ مثيلا لها!.. فأخذت آكل من هذه، وتلك، واستيقظت من سِنة النوم هذه، فوجدت نفسي في شبع وَريّ، فلا جوع، ولا عطش!! بل إن مذاق ما أكلته من طعام كان لا يزال بفمي!! فأخذت أشكر الله وأحمده”.
زينب الشخصية الدعوية القيادية:
جنّدت السيدة زينب ما حباها الله من طاقات فكرية ومادية لخدمة الدعوة إلى الله والعمل على تأسيس جيل مسؤول يسير على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فاهتمت بدءًا بإنشاء جمعية “جماعة السيدات المسلمات” سنة 1936م آوت الكثير من النساء والأيتام وتكفلت بتعليمهن من الروضة إلى الجامعة، وكان هدف تأسيسها: “نشر دعوة الله والعمل على إيجاد الأمة المسلمة التي تعيد للإسلام عزته ودولته “. وتطور عملها الدعوي بانضمامها إلى جماعة الإخوان المسلمين سنة 1937م، فقدمت بيعتها المطلقة للإمام حسن البنّا قائلة: “سيدي الإمام حسن البنا… زينب الغزالي الجبيلي تتقدم إليك اليوم وهي أمَة عارية من كل شيء إلا عبوديتها لله وتعبيد نفسها لخدمة دعوة الله، وأنتَ اليوم الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يبيع هذه الأمة بالثمن الذي يرضيه لدعوة الله تعالى. في انتظار أوامرك وتعليماتك سيدي الإمام…”، وكَبَادرة ولاء أُولى للجماعة تبرعت السيدة زينب ببعض أثاث بيتها للمركز العام للإخوان المسلمين: “وأحببت في اليوم الأول لافتتاح المركز العام للإخوان المسلمين أن أعلن ولائي للدعوة بطريق غير مباشر… فتبرعتُ بأغلى شيء كنت أعتز به في أثاث منزلي وهو طاقم صالون أرابيسك مطعم بالصدف ليؤثث به مكتب المرشد العام”.
وظلت بعد ذلك أمينة على هذه البيعة، تَفِي بحقها في أخصّ شأنها “ومنذ ذلك الوقت والبيعة تحكم تصرفاتي حتى ما يبدو منها خاصاً كرحلة مؤتمر السلام في فيينا التي لم أقم بها إلا بعد أن حصلت على إذن الإمام المرشد الهضيبي”. وحين أطلّت المحنة برأسها على جماعة الإخوان في عهد جمال عبد الناصر، وكثرت الاعتقالات والإعدامات في صفوف أفراده، وجدتْ زينب نفسها تنخرط بشكل أعمق في مجال الدعوة وشؤون الجماعة، وتضاعف جهادها بالغالي والنفيس من أجل الدفاع عن النفوس المكلومة، وتضميد جراح الأيتام والأيامى، تقول في شهادتها على هذه الحقبة: “وفي عام 1955 رأيت نفسي مجنّدة لخدمة الدعوة الإسلامية بغير دعوة من أحد فقد كانت صرخات اليتامى الذين فقدوا آباءهم بالتعذيب ودموع النساء اللاتي ترملن وأزواجهن خلف قضبان السجون. والآباء والأمهات من الشيوخ الذين فقدوا فلذات أكبادهم. كانت هذه الصرخات والدموع تنفذ إلى أعماقي. ووجدت نفسي وكأني من المسؤولين عن ضياع الجياع وجراح المعذبين. وأخذت أقدم القليل”.
وما أثار إعجابي في هذه الشخصية العظيمة، ثباتها على مبادئ الدعوة التي عاهدت الله على نشرها والجهر بها لا تخاف في ذلك لومة لائم، ففي أوج محنتها داخل السجن ما انفكت تدعو جلاديها إلى الرشد، وتبصّرهم بما يرتقبهم من سوء المصير جزاء فعلهم الشنيع بتعذيب الأبرياء “الذين قالوا ربنا الله”، فها هي تقف أمامهم بلا وجل وتصدح بقناعاتها “إن غايتنا أن ننشر دعوة الله وندعو للحكم بشرعه. إنني باسم الله أدعوكم أن تتخلوا عن جاهليتكم وتجددوا إسلامكم. وتنطقوا بالشهادتين وتسلموا لله وجوهكم، وتتوبوا إلى الله من هذه الظلمة التي رانت على قلوبكم فأغلقتها في وجه كل خير، لعل الله يخرجكم من ظلمة الجاهلية إلى نور الإسلام”. بل إنها وقفت بشموخ و شجاعة وسط المحكمة وأمام القاضي وقالت ملْء فيها: “نحن أمناء أمة وورثة كتاب وحماة شريعة، ولنا في رسول الله أسوة حسنة. وإننا لثابتون على الطريق حتى نرفع راية لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وحتى تلتزم بها الأمة. وحسبنا الله ونعم الوكيل فيما افترى الظالمون. وأشرتُ إلى النيابة والمحكمة معا وأنا أردد: حسبنا الله ونعم الوكيل في هذا الباطل والبهتان والإثم المبين”.
وقد أخذت زينب الغزالي على عاتقها أمر تهيئ جيل إسلامي يقتفي أثر السلف الصالح ويستقي منهجه من الكتاب والسنة والسيرة النبوية الشريفة وذلك تحت إشراف قيادات الإخوان المسلمين، تقول رحمها الله: “ومع أوائل 1958 كانت لقاءاتي قد تعددت بعبد الفتاح إسماعيل في منزلي وفي دار المركز العام للسيدات المسلمات. كنا نبحث في أمور المسلمين محاولين بكل جهدنا أن نفعل شيئاً للإسلام يعيد لهذه الأمة مجدها وعقيدتها، مبتدئين بسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح ومن بعدهم، جاعلين منهجنا مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”.
وتقول في موضع آخر موضحة الأسس العلمية التي قامت عليها الجماعة: “كنا نجتمع مع شباب الإخوان ندرس في كتب الفقه والسنة والحديث والتفسير. كنا ندرس كتاب المحلّى لابن حزم، وزاد المعاد لابن القيم، والترغيب والترهيب للحافظ المنذر، وفى ظلال القرآن لسيد قطب، وملازم من كتاب معالم في الطريق.. كنا ندرس سيرة الرسول والصحابة. وكيف قامت الدعوة الإسلامية.. وكان ذلك بإذن وإرشاد الأستاذ الهضيبي.. كان الغرض من الدراسة هو إيجاد لَبِنات سليمة من الشباب المسلم. علّنا نستطيع إعادة مجد الإسلام وقيام أمته الفعالة في الأرض”.
فالتركيز كان على الجانب التربوي والسلوكي وليس الجهاد المسلح وسفك الدماء: “وأُشهد الله على أنه لم يكن في برنامجنا غير تربية الفرد المسلم الذي يعرف واجبه تجاه ربه وتكوين المجتمع المسلم الذي سيجد نفسه بالضرورة مفاصلاً للمجتمع الجاهلي”. ورغم ذلك كان عملها مع الجماعة يتم بشكل سري بسبب المضايقات الشديدة من السلطة الناصرية.
وقد بينت زينب الغزالي في سيرتها الذاتية منهجية العمل التي اعتمدتها جماعة الإخوان المسلمين و رسمت الخطوط العريضة التي تؤكد سعي الجماعة للسير على النهج النبوي في الإصلاح: “وبعد دراسة طويلة قررنا أن نعيد تنظيم الإخوان المسلمين في كل مواقعها وأن نعمل بدأب ومثابرة على جمع كل من نستطيع من لبنات صالحة من شباب الأمة الضائع في المجتمع الجاهلي المحيط بالبشرية كلها.. وقررنا أن يستغرق هذا العمل ثلاثة عشر عاما. بعدها نقوم بمسح للجمهورية، فإن وجدنا الفئة المؤمنة بمبادئ الإسلام تقل نسبتهم عن 25% جددنا فترة الدراسة المصحوبة بالتربية لثلاثة عشر عاما أخرى ثم نعيد التقييم ثانية وثالثة ورابعة حتى تصل النسبة 75% من مجموع الشعب.. عندها ننادى بالدولة الإسلامية”.
وكانت النتيجة الحتمية لاختيارها الدعوي والسياسي محاولة اغتيالها ثم اعتقالها والحكم عليها بالأشغال الشاقة المؤبدة (25 سنة). حيث ذاقت في الزنزانة رقم 3 كل صنوف التعذيب: (لقد مررت بكل درجات التعذيب درجة درجة، من الجلد بالسياط المجنونة كألسنة اللهب إلى نهش الكلاب المدربة، إلى زنزانة الماء، إلى زنزانة النار، ثم تكررت عملية الجلد والصلب والتعليق على الأعواد كالذبائح، إلى عذاب يحطم الأعصاب والأرواح)، وقد صدر أمر تعذيبها من أعلى جهة حينئذ “بأمر جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية تعذب زينب الغزالي الجبيلي فوق تعذيب الرجال “. لكنها استطاعت تخطي هذه المحنة بأمرين هامين كما صرحت بذلك :أولهما التزامها بدينها الذي كان عصمة لها، وثانيهما رؤيتها للرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة و التي كانت جرعة أمل تسقي روحها المجهدة من أثر التعذيب. بل إن هذا الصمود من أنثى تتلقى ألف جلدة في اليوم أذهل جلاديها وجعلهم يصرخوا فيها ذات يوم: (بأي قوة تعيشين؟!! كِدنا نفقد عقولنا فيك).
وحسبك أخي القارئ أن تقرأ ردّ أحدهم لتعرف معدن هؤلاء الأوغاد الذين استباحوا جسد هذه السيدة الطاهرة :(انْتِ فاهمة ربكم عنده جهنم صحيح؟! جهنم هنا عند عبد الناصر.. الجنة عند عبد الناصر جنة موجودة حقيقية.. وليست جنة وهمية خيالية مثل التي يعدكم بها ربكم). ولفظاظتهم وغلظة قلوبهم كانت ترى الكلاب أكثر رحمة وشفقة منهم (الكلاب، لقد كانت في نظري أرقّ منهم شعورا وأسمى وأكثر إدراكا. كنت كلما حبسوني مع الكلاب أحسست عمق بشاعتهم وازداد احتقاري، وأصبح الأمر لا يشغلني كثيرا. بل أصبحت أفضل أن أظل مع الكلاب على أن أبقى ثواني مع شمس أو حمزة أو جلال).
وأُسدل الستار على معاناتها بالسجن الحربي بعدما صدر قرار الإفراج عنها سنة 1971م. لتنتقل بعدها إلى السجن المدني بالقناطر حيث ستبدأ فصول معاناة جديدة، معاناة مع تلك النماذج البشرية المنحرفة والضالة من النساء، لكن مع ذلك كانت هناك فسحة من الإنسانية مع بعضهن وإن كانوا من غير المسلمين، تقول زينب الغزالي (ورأينا في تلك الغابة الموحشة والصحراء الجرداء القاحلة إنسانية متمثلة في طبيبة مسيحية تقدم لنا عونها بين الفينة والفينة، فعجبنا لهذا الطابع الإنساني.. النادر وجوده في مثل هذه الظروف).
وعانقت السيدة زينب الحرية بعد الإفراج النهائي عنها في نفس السنة. و(انتهت أيام السجن الحربي، والإخوان المسلمون كالطود الشامخ شرفا ورجولة ومجدا) كما صرحت بذلك مؤكدة أن “الإخوان المسلمين” استطاعوا أن يخرجوا من هذه المحنة منتصرين وإن فقدوا كثيرا من قياداتهم وشبابهم الخلّص (وكانت معركة دفعنا فيها أغلى رجال الدعوة: سيد قطب الإمام الفقيه، وعبد الفتاح إسماعيل رجل في أمة وأمة في رجل، ومحمد هواش ذلك العملاق في الدعوة وفقهها).
فـ(كانت معركة 1965 وثبة الأشبال ونهضة الشباب من الجيل الذي ولد في أيام انقلاب عبد الناصر وصبّ به كل ما يملك من سموم إعلامه وصناع حكمه. نعم ذلك الجيل الذي استوعبناه وبنينا به بعثتنا للدعوة ونظمنا به صفوفنا من جديد، فجن جنون عبد الناصر؟ فقد سلبته امرأة ورجل جيله كما كان يصيح فيمن حوله، كانت المرأة أنا وكان الرجل عبد الفتاح عبده إسماعيل).
زينب الشخصية المثقفة:
لأنها سليلة أسرة عالمة فلا غرو أن تُبحر في يمّ العلم والمعرفة وتنهل منه ما جعلها خطيبة مفوهة أفحمت جلاديها في أحلك المواقف، وجعلتهم يقفوا صاغرين أمام بيانها. فقد كانت قارئة مجدّة يشهد لذلك مكتبتها الضخمة التي حوت كتبا يزيد عمرها عن مئة عام، لكن للأسف تم إتلافها في حملات المداهمة لبيتها سنة 1965م. كما كانت مشرفة على مجلة السيدات المسلمات التي أُوقفت بأمر عسكري سنة 1958م.
وحين كانت رئيسة لبعثة السيدات للحج 1957 قدمت مذكرة لملك المملكة العربية السعودية تحثه على المبادرة بتعليم البنات لما في ذلك من النفع العميم، وطلبت منه (الإسراع في تنفيذ هذا المشروع، مبينة مصلحة المملكة في ذلك، وحولتُ المذكرة على فضيلة المفتي الذي طلب مقابلتي. وقضيتُ ساعتين أبحث المشروع معه).
ولعلّ سيرتها الذاتية “أيام من حياتي” والتي خطتها بنفسها، تُبرز درجة الوعي الفكري والنضج العقلي والمستوى الأدبي والثقافي الذي بلغته هذه السيدة الجليلة.
زينب الزوجة:
لم تتحدث السيدة زينب عن حياتها الشخصية بشكل مفصل، بل ذكرت ومضات فقط في ثنايا سردها لمحنتها، وخاصة علاقتها بزوجها الذي كان على درجة من الوعي بظروف نشاطها الدعوي، وكان يساعدها أحيانا في تيسير أمور بعض اللقاءات داخل البيت.
ولعل هذا التفاهم كان ثمرة اتفاق أولي وُضعت لَبِنتُه عندما قرّرا الارتباط ببعضهما بميثاق غليظ، حيث كانت السيدة زينب واضحة في بيان موقفها الذي تُغلب فيه مصلحة الدعوة والعمل في سبيل الله على مصلحتها الشخصية، قالت وهي تخاطب زوجها رجل الأعمال محمد سالم: (وأنا لا أستطيع أن أطلب منك اليوم أن تشاركني هذا الجهاد، ولكن من حقي أن أشترط عليك ألا تمنعني جهادي في سبيل الله، ويوم تضعني المسئولية في صفوف المجاهدين فلا تسألني ماذا أفعل ولتكن الثقة بيننا تامة، بين رجل يريد الزواج من امرأة وهبت نفسها للجهاد في سبيل الله وقيام الدولة الإسلامية وهي في سن الثامنة عشرة، وإذا تعارض صالح الزواج والدعوة إلى الله، فسينتهي الزواج وتبقى الدعوة في كل كياني).
ولأن المؤمن يرى بنور الله، فقد أتاها خبر نعيه في رؤيا صدّقها الواقع، وحزنت لوفاته رغم أنه طلقها مكرها وهي في محنتها، بعد أن تمّ إرغامه على ذلك، وقالت في نعيه: (فزوجي كان أخي في الله قبل أن يكون زوجي… لقد جمعت بيننا العقيدة قبل أن يجمع الزواج، والزواج عرَض من أعراض الحياة، ولكن الأخوة في الله باقية خالدة لا تزول ولا تقاس بها الدنيا وما فيها). وما بثّ الراحة في نفسها المكلومة علمها بحضور أسرتها لمراسم العزاء وتشييع الجنازة وأداء ما عليهم من واجب رغم الانفصال.
فأيّ روح إنسانية كانت تسكن هذه السيدة التي تتعالى عن الحسابات الدنيوية التافهة وتستحضر واجبها الإنساني وتتغاضى عن التفكير السطحي والساذج في الانتقام أو التشفي ممن أرسل لها ورقة الطلاق في سجنها!! إنه الإيمان حين تستحكم ذراته في كل كيان فيغدو العقل حكيما والقلب رحيما.
لم تكوني يا زينب سيدة عادية، وما كان لمثلك أن تُقبر سيرتها وقد أفنت حياتها في سبيل الجهاد إعلاءً لكلمة الله تعالى، أنت حجة على أولئك المتخاذلين الذين باعوا دينهم بأبخس الأثمان، وارتضوا مصافحة أيدي الطغيان، وحسبك رحمة بك أن الله اصطفاك قبل أن تُبصري الخونة الذي باعوا دينهم ووطنهم بلا ثمن.