هل أنت مع أو ضد؟
هوية بريس – محمد كرم
هل أنت مع أو ضد إلغاء عقوبة الإعدام ؟ (أنا شخصيا مع الضرب بالمسطرة على رؤوس الأصابع !!)
هل أنت مع أو ضد رفع التجريم عن العلاقات الرضائية ؟ (إذا كان المقصود بالسؤال هو رضا الوالدين فأعوذ بالله من العقوق !!)
هل أنت مع أو ضد تغيير أحكام الإرث المعمول بها حاليا ؟ (ما الفائدة من هذا النقاش عندما تكون مكونات التركة المعنية بالقسمة محددة فقط في “تريبورطور” و نصف شقة من النوع الاقتصادي ؟؟ )
هل أنت مع أو ضد المساواة بين الرجل و المرأة ؟ (المساواة بين الجنسين مفهوم جميل … ولكن لا أعتقد بأن أرباب الحمامات مستعدون اليوم لهدم الجدار الفاصل بين حمام الرجال و حمام النساء !!)
هل أنت مع أو ضد التمكين الاقتصادي للمرأة ؟ (السؤال بصيغة أخرى : هل قوامة الرجل “غير زايدة” أو “ناقصة” أو “زايدة ناقصة” ؟؟)
هل أنت مع أو ضد تعدد الزوجات ؟ (أنا شخصيا مع التعدد شريطة أن يكون هناك ما يثبت اختفاء الزوجة الأولى في صحراء ناميبيا أو في أدغال الأمازون !!)
هل أنت مع أو ضد رفع التجريم عن المثلية الجنسية ؟ (إذا ابتليتم فاستتروا .. و رحم الله شاذا عرف رأي المجتمع فيه و كف عن استفزاز الأسوياء من أفراده.)
هل أنت مع أو ضد الزواج لمدة محددة ؟ (هذا سؤال من المفروض أن يطرح على مرتادي دور الدعارة فقط !!)
هل أنت مع أو ضد الزواج بالفاتحة ؟ (ربما الزواج ب “البقرة” أو “آل عمران” أفضل بكثير تجنبا للتسرع !!)
هل أنت مع أو ضد تقاسم الثروة بعد الطلاق ؟ (أنا شخصيا مع … شريطة ألا تقل فترة أيام المشمش الأولى عن 30 سنة بالتمام و الكمال ؟؟)
هل أنت مع أو ضد زواج المسلمة من غير المسلم ؟ (ربما هذا يتوقف على حجم رصيده البنكي !!)
هل أنت مع أو ضد زواج القاصر ؟ (إذا لم يسفر النقاش عن نتيجة تحظى بالإجماع، ربما وجب في هذه الحالة الاحتكام إلى ما يقوله الميزان !!)
هل أنت مع أو ضد مساعدة الزوج لزوجته في القيام بالأشغال المنزلية ؟ (أعتقد بأنه لا شيء يحول دون ذلك شريطة ألا يكون الزوج في مرمى أعين أمه و أخواته و هو يقوم بتقشير البطاطس أو تمرير “الجفاف” على أرضية البيت !!)
هل أنت مع أو ضد التربية الجنسية ؟ (من يا ترى علم الرضع الرضاعة ؟)
هذه الأسئلة البعيدة كل البعد عن البراءة، إضافة إلى أخرى أكثر أو أقل خبثا، هي التي دأبت على طرحها معدة و مقدمة برنامج حواري تبثه إحدى قنواتنا التلفزيونية المغربية بانتظام في فترة المشاهدة المكثفة و مع سبق الإصرار و الترصد بما أنها تشكل مضمون فقرة ثابتة من فقرات البرنامج، بل يبدو جليا أن هذه الفقرة بالذات هي حجة وجود هذا المنتوج الإعلامي في حين أن باقي الفقرات هي للتمويه فقط ما دام أن الحياة الشخصية لرجل أعمال ناجح و مغمور مثلا لا تهم إلا ذويه و المتعاملين معه، و ما دام أن المشاريع المستقبلية لمغنية شابة تافهة تظل مجرد كلام للاستهلاك الآني. إن أهم ما في المسألة هو استدراج الضيوف لإعطاء رأيهم و إسماع صوتهم على أمل التأثير في جمهور المتلقين بصفة عامة.
هل لما تقوم به هذه الإعلامية ـ و التي لا تخفي ميولاتها النسوية و العلمانية و لا تخفي أيضا امتعاضها من الردود التي لا تتطابق مع انتظاراتها ـ مثيل بباقي القنوات العربية و الإسلامية ؟ بل هل هناك تلفزيون محافظ مهما كان دينه يجرؤ على تمرير سموم من هذا القبيل ؟
لماذا الإصرار على طرح أسئلة محرجة هي تعلم بأنها لم تطرح أبدا لا على أمواج الإذاعة و لا على أمواج التلفزيون ببلادنا منذ تأسيسهما ؟
ما الغاية من دعوة نساء جريئات قاسمهن المشترك الميل إلى التمرد على سلطة الرجال و تجاهل أدوارهم الريادية و المحورية على مر التاريخ ؟
ما الفائدة من إثارة نقاش مع أشخاص من مختلف المشارب بخصوص قضايا لم تكن قابلة للمناقشة أو المزايدة في أي عهد من العهود السالفة ؟
هل تمظهرات الحداثة الحالية ببلادنا لم تعد كافية و أضحى من الضروري اليوم الزيادة في جرعتها حتى نقترب أكثر من مستوى حداثة هولندا و ألمانيا و الدانمارك ؟
هذا ربما ما ستجيب عنه الأيام القادمة.
أعتقد بأني لا أجانب الصواب عندما أقر بأن الأمر يتعلق بحركات تسخينية تسبق إرساء دعائم واقع جديد يقطع مع ما جبل عليه المغاربة على امتداد قرون من الزمن. و البرنامج إياه، و الذي لا هو تثقيفي و لا هو ترفيهي و لا هو تحليلي، مجرد معول جاء لينضاف إلى معاول هدم أخرى و أداة لإعادة تشكيل الرأي العام على أسس إيديولوجية جديدة و لإعداد المغاربة للتطبيع مع فوضى القيم و انفلات الغرائز و لتجاوز كل المحددات الموروثة، و صاحبته تعي جيدا أهمية التكرار في الإقناع و توطين الأفكار، و لهذا السبب نراها ماضية بكل ثبات و بدون كلل أو ملل في حملتها الرامية إلى تعميق أزمة القيم بالبلاد و في حربها ضد أخلاق الأمة في أفق توفير كل شروط النجاح للثورة الهادئة التي هي بصدد التحضير لها بمعية أمثالها من “متنوري” العصر. و بما أن الهدف مرسوم بكل عناية و دقة ينتابني شعور بأن البرنامج سيستمر في أداء رسالته “النبيلة” لشهور أو سنين أخرى حتى و لو اقتضى الأمر تأثيث باقي الحلقات بمشاهير لا تتجاوز شهرتهم حدود حيهم أو زقاقهم.
و إذا كانت الإعلامية إياها تعتقد بأنها مقبلة على البصم على فتح حضاري جديد سيضعنا على سكة التقدم و التميز و التألق إقليميا و قاريا و دوليا فمن واجبي و واجب أمثالي من الغيورين على هذا الوطن و تاريخه أن نذكرها بحقيقة ساطعة مفادها أن الأرض التي يدخلها الإسلام لا يخرج منها أبدا مهما تفنن الحاقدون في الإجهاز عليه أو ـ على الأقل ـ في اختزاله في مجموعة من الممارسات و الطقوس المنفصلة عن واقع حياة الناس. قد نمر من فترات ضعف لكن تبقى بداخلنا دائما بذرة توقظنا في الوقت المناسب لصد أي عدوان يطال هذا الدين العظيم الذي سيظل أمانة في عنقنا و في عنق الدولة المغربية التي تدين له بتأسيسها قبل 12 قرنا و نيف.
كل المؤشرات تؤكد وجود تحركات مكثفة مشبوهة تحمل توقيعات المنتسبين للتيار الحداثي الغاية منها حمل الناس على الاستئناس بالقيم المستوردة التي لا تشتم فيها سوى رائحة الرغبة في طمس الرجولة و قتل الأنوثة و تخريب هوية البلاد، و ما البرنامج التلفزيوني موضوع هذا المقال إلا دليل إضافي على تربص أعداء التاريخ بتماسك المجتمع و بمناعة ما تبقى من الأسرة المغربية و على غرابة المشهد المغربي المعاصر الذي يدعو إلى الحسرة و الشفقة حتى أضحى الخوض في مختلف تمظهراته هواية وطنية ثابتة. فلا نحن غربان احتفظنا بمشيتنا الأصلية و لا نحن أفلحنا في اكتساب مشية الحمام.
الظرفية لا تبعث على الارتياح، و أخشى ما أخشاه أن يستغل غلاة العلمانيين برلمان البلاد بتركيبته الحالية لتمرير قوانين جنائية و أسرية نشاز من شأنها أن تفقدنا صوابنا و تقحمنا جميعا في غياهب المجهول. و هكذا، فعوض رص الصفوف و الدعوة إلى التعاضد لصيانة قيمنا و التشديد على مناعة ديننا و منظومتنا التربوية ها نحن أصبحنا أحزابا تتقاذفنا التيارات حتى أضحت البلاد على شفا حفرة من الضياع بتعريضها للتغريب و بدفع أهلها إلى الشذوذ عن الفطرة. يبدو أن إعجاب ثلة ممن يعانون من المراهقة الفكرية و السياسية ببلادنا بالنموذج الغربي لم يتراجع قيد أنملة على الرغم من البؤس الاجتماعي و النفسي الرهيب الذي تعيشه المجتمعات الغربية التي وقعت على مأساتها يوم تناست بأن الحرية مثل صنبور الماء، إذ لا بد من ضبط صبيبها حتى لا نغرق و لا ُنغرق. و حتى لو قدر لنا أن نخضع يوما ما لمخططات العلمانيين فعلينا منذ الآن تكوين ما يكفي من المساعدين الاجتماعيين و الأطباء النفسانيين و إحداث ما يكفي أيضا من دور العجزة و مراكز إيواء اللقطاء و الأمهات العازبات والمشردين و مصحات معالجة الإدمان على المخدرات. سيكون من العبث الدخول في مرحلة جديدة دون التحضير لها بتوفير اللوجستيك اللازم.
ماذا سيتبقى إذن من دين الدولة بعد إعادة النظر في الشروط التي حددها الشرع بشأن أمور من قبيل الحدود و الزواج و الطلاق و التعدد و النفقة و الإرث و الاختلاط بين الجنسين ؟
الأمم لا تحيا بالفوضى و لكل أمة مرجعيتها الحضارية و نظامها في العيش. لن نجد مثلا مسلسلا فرنسيا واحدا يدعو إلى تعدد الزوجات أو يعدد فوائد رمضان، و لن نجد وصلة إشهارية ماجنة واحدة على قناة سعودية، و لن نجد فيلما مصريا واحدا يشجع على التفكك الأسري أو على الشذوذ الجنسي، و لن نجد عملا دراميا أمريكيا أو بريطانيا واحدا يمجد الشيوعية أو الفرنكوفونية أو يروج للأفكار النازية. هكذا هي الأشياء. و قد أثبتت الأيام غير ما مرة بأن كل من يتنكر لمحيطه المباشر و لهويته الفطرية الموروثة و للمنظومة الأخلاقية القائمة و ينطلق في البحث عن لسان جديد و حضارة جديدة و مرجعية جديدة لا يزيده الله إلا مسخا على مسخ حتى يصبح من الصعب تمييزه عن القرود. لو أراد الخالق لجعل من مخلوقاته أمة واحدة بلسان واحد و بمنظومة قيمية و رقصات فولكلورية و طقوس اجتماعية و دينية موحدة لكنه لم يفعل و تعمد في المقابل إرساء مبدأ التنوع مع توفير كل السبل الممكنة لضمان التجانس على مستوى كل أمة. بعبارة أخرى، سيظل السويدي سويديا، و سيظل اليوذي بوذيا، و سيظل الماروني مارونيا… و سيظل المسلم مسلما.
ملحوظة ختامية : رافعو شعار الحداثة المطلقة و الشاملة بهذا المجتمع مقتنعون بأن استمرار النفاق الاجتماعي المترتب عن التناقضات السلوكية المرصودة من شأنه تأخير تأهيلنا للالتحاق بنادي الكبار بسنوات إن لم أقل بقرون، و بالتالي فإن القطيعة مع الموروث أضحت مطلبا ملحا. أقول لهؤلاء : النفاق الاجتماعي أفضل ألف مرة مما تدعون إليه ما دام التقدم الذي تنشدونه مادي محض و لا قيمة له على المدى البعيد. النفاق الاجتماعي يضمن لنا على الأقل استمرار مغرب الحشمة و العفة و الوقار و الخطوط الحمراء و يقينا من الوقوع بين براثن الرذيلة و الانحلال و “التصنديل” و “التجلويق”.
طلب ختامي : سيدتي، إذا كنت مخطئا في استنتاجي ـ و أتمنى ذلك ـ و إذا كنت تبحثين فقط عن التميز الإعلامي فهناك سبل أخرى لتأكيد ذاتك مهنيا و هي أكثر سلامة و فائدة و مردودية من مجرد حمل الناس على التشكيك في صلاحية ما ورثناه من قيم و كسر الطابوهات بإسم النقاش و السجال و باستعمال واحدة من أخطر وسائل البث، و اعلمي أيضا أن الرغبة في تغيير مجرى الحياة مع الاستماتة في الدفاع عن قيم الغرب المتهالكة لن تجلب علينا سوى الخراب لنصل في نهاية المطاف إلى استنتاج في غاية الأهمية مفاده أننا لسنا أكثر ذكاء من أجدادنا في أمور الدنيا و الحياة و أن المستجدات على مختلف الأصعدة هي التي يجب أن تتكيف مع تقاليدنا و أعرافنا و تعاليم ديننا و ليس العكس.