هل أنصبة المواريث معقولة المعنى؟
هوية بريس – د.عبد الحميد بنعلي
بداية يجب أن نعلم أن العقول متفاوتة الإدراك مختلفة الأذواق، وذلك لاختلاف مشاربها ومواردها، فما قد يستحسنه (عاقل) ليس بالضرورة أن يستحسنه عاقل غيره، بل كل عمل سيئ عند المنكفين عنه فهو حسن عند مرتكبيه، وكل حسن عند مرتكبيه فهو سيء عند المنكفين عنه، وجميعهم عقلاء، وعن عقولهم صدروا.
ولهذا التفاوت في عقول البشر: وجب أن يكون حاكم يفصل بينهم، ويرجعون إليه عند التنازع والاختلاف، وهي المهمة التي اضطلع بها الوحي الإلهي، كما قال الله تعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} ولو ترك البشر وأهواءهم وعقولهم لكانت النتيجة كما في هذه الآية: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن}.
والفقهاء حين يتكلمون عن (معقولية المعنى) فإنما يقصدون عقلا خاصا، وهو العقل الفطري المجرد عن عادات البشر وأهوائه وحظوظه، ولا يريدون العقل المطلق عن هذا القيد.
كما أنهم حين يصفون بعض الأحكام بكونها (غير معقولة المعنى) لا يقصدون أنها شرعت لغير معنى!، بل يريدون أن معناها غير مدرَك للبشر وإن كان هو الباعث على الحكم والعلة له، فإن تشريع الحكم لغير معنى عبث ينزه عنه العقلاء فكيف بالله الحكيم العليم.
فإذا وضحت هذه المقدمة يأتي الجواب عن السؤال المطروح هنا، وهو: هل أنصبة المواريث معقولة المعنى؟.
والجواب: بالنفي المطلق، والدليل لذلك: أمران:
احدهما: انتفاء القياس في المواريث، فإن الله تعالى أحكم هذا الباب كله أصوله وفروعه، فلم يدع لقائس قيسا، والقياس مبناه على العلل، فلما لم يكن فيها قياس علمنا بانتفاء موجبه.
الثاني: أننا لو سألنا مجموعة من العقلاء، وطلبنا منهم أن يضعوا لنا قانونا عادلا في تقسيم التركات منشؤه العقل لاختلفوا حتما، وهذا هو الواقع في أعراف عقلاء بني آدم، فكل أمة وكل قوم لهم نظم خاصة بالمواريث، وهم جميعا يرون أن ذلك عين العدل وعين الحكمة!!
وأهل الجاهلية حينما حكموا بحرمان النساء من الميراث إنما صدروا عن عقولهم، وحكموا بما يرونه عدلا وحكمة، وعللوا ذلك بأن المرأة لا تقاتل عدوا، ولا تحمي بيضة، ولا ترث نسبا.
وبهذا العقل نفسه حصروا الميراث في الابن الأكبر ورأوه أحق به من سواه.
وقد يجتهد الفقهاء في إبراز بعض علل المواريث لكنهم لا يهتدون لعلة تعيين ذلك النصيب دونما هو أقل منه أو أكثر.
فمثلا: تفضيل الأخ على أخته معلوم سببه، وهو أن الحقوق تتبع الواجبات، والواجب المنوط بالذكر يقتضي أن يزاد في نصيبه، فإنه الذي يجب عليه أن ينفق على الأسرة إذا افتقرت، وهو من يتولى تزويج البنات، والذود عن الحرمات، وإذا فعلت المرأة شيئا من ذلك فمحض تطوع منها، والتطوع يجب أن يبقى دون أجرة وإلا كان معاوضة.
هذا بالإضافة إلى التفضيل المطلق للذكر على الأنثى كما قال تعالى {وللرجال عليهن درجة} وقد تجلى هذا الفضل في (الحجب) فإنه يحجب أعمامه أن يزاحموا الأسرة في ميراثها حتى لو كان معاقا أو مجنونا، بل حتى لو لم يعش بعد ميلاده إلا ساعة، ولا تقدر أخته على ذلك ولو كان معها مائة امرأة!
فتعليل هذا الفضل معلوم ومستساغ ومطابق للواقع ومجاري الناس في عاداتهم، ولكن العقل عاجز عن إدراك معنى النصيب المعين للذكر وأخته، فلو قيل: لم لم يختص الذكر بكامل الإرث إذن ما دام أنه متفرد بهذه المنافع؟ أو: لم لم يكن لأنثى أقل من هذا النصيب ما دامت لا تغني شيئا؟ لكان سؤالا عريا عن جواب مقنع يتفق عليه الناس مع تسليمنا بالحكمة الكامنة فيه واشتماله على العدل.
ومثال آخر يجلي لك هذا: لو مات شخص عن زوجة وأم وبنت وأخت شقيقة وأخت لأب، فهؤلاء كلهم نسوة وقد اختلف إرثهم اختلافا كبيرا، فللزوجة الثمن، وللأم السدس، وللبنت النصف، وما بقي تأخذه الأخت الشقيقة، وتسقط الأخت للأب.
فالعقل عاجز عن إدراك سر هذه القسمة مع إيماننا بأنها قسمة عادلة.
ولو طرحنا هذه المسألة على المنادين بتغيير نظام الإرث لاختلفت عقلوهم بيقين، ولما حاروا جوابا مقنعا عما رضوه.
فلو قال قائل منهم: نقسم التركة بينهم بالسوية لكان حكمه ظلما، لأن منافع هؤلاء النسوة للميت مختلفة، والقاعدة العقلية هي أن يكون الغنم بالغرم، فليست الزوجة كالأم في قليل ولا كثير، ولا الأخت الشقيقة كالبنت، ولا هي كالأخت للأب.
ولو قال منهم قائل: نعطي المال كله للزوجة والبنت يقتسمانه بالسوية، لقيل له مع كف طارش: وأين الأم التي حملت وأرضعت وتعبت؟، ثم كيف تسوي بين بنت الميت من صلبه وبنت قوم آخرين كانت له زوجة ثم صارت مباحة لغيره؟! وما ذنب الأختين أن لا ترثا وقد شاركتاه في أصله وهما أقرب إليه من زوجته؟!
ومهما أجاب هؤلاء بجواب مخالف للملة فلن يجدوا تبريرا مقنعا لما يضعونه إلا الجهل والصلافة.
وبهذا تعلم: أن ما يدندن به المناوئون للشريعة من (العدل) و(المساواة) إن هو إلا خيال محض، وجهالة وعماية، وإلا فلو وكلوا بقسمة التركات لجاروا حتما، ولاختلفوا حتى يقتتلوا.
وصلى الله على محمد وآله.