في ظل هذا “البلوكاج” السياسي الرهيب فَهِم الإنسان المغربي حقيقة واحدة ووحيدة، وهي أن “الإصلاح السياسي” من قبيل المستحيل إن لم تكن هناك إرادة حقيقة للنظام في سلوك سبيل الإصلاح الحقيقي، ومن أهم مستلزمات هذا السلوك وجوب تخلي الدولة “العميقة” عن الفعل التسلطي الذي يمارسه مركز القوة التحكمية على حركة الإصلاح.
هذه الحقيقة فهمها المغاربة وتأكدوا من أن طريق الإصلاح طويل شاق، وأن على من اختار المضي فيه، لابد له من صبر على القريب قبل البعيد، والصديق قبل الخصم العنيد، ولابد فيه من صدق مع النفس والأتباع والخصوم، وشجاعة تمكنه أن يقول “لا” الرافضة الغاضبة في وقتها، عندما تكون “نعم” تعني الانبطاح والانتحار والتردي إلى هوة سحيقة، حيث توجد في قعرها قبور كثيرة تضم أرواح الزعماء الذين تتراءى للمغاربة أجسادهم المكتنزة تملأ كراسي البرلمان، ودمًى من شمع يُلعب بها على رقعة الشطرنج السياسي.
ونقصد بذلك أولئك الزعماء وأحزابهم التي كانت تعرف هي أيضا -يوما ما- متى تقول “لا” ومتى تقول نعم، أما التي خرجت من المصنع أحجارا في شكل حصان أو حمامة فلا تعنينا ولا نعنيها.
فمن كان من أخلاقه الصبر والصدق والشجاعة، فلا يضره العفو عما سلف، بشرط أن لا يستمرئ العفو، حتى ينقلب ضعفا وهوانا يزري به فيفقد القوة التي دفعته إلى الأعلى لمقارعة سيوف الفساد ومَكايد الاستبداد.
“البلوكاج” السياسي اليوم هو مبارزة حقيقية بين حزب اختار الهدوء في العمل، ونهج سياسة الرفق دون مزايدات فاضحة، ولا عداوات مضرة بمصلحة البلاد والعباد، وبين أشباح اعتادوا أن يحركوا الدمى وفق سياسة تُبقي المشهد هو هو، وتكتفي بتغيير الديكورات، فيصبح الشعب مفعما بالتغيير الشكلي، مؤملا لإصلاح حقيقي ينتظره منذ أكثر من ستين سنة، هي عمر الاستقلال الأعرج.
لكن دعونا نتساءل من يصنع البلوكاج لمن؟؟ لقد دخل هذا المصطلح الفرنسي “البلوكاج” ذي الدلالة العميقة المعبرة عن فعل يقصد به إيقاف شيء متحرك، لمنع حركته من الاستمرار والتأثير.
“البلوكاج” الحكومي بهذا المعنى هو فعل صادر عن فاعل أساس في لعبة الحكم؛ يراد منه إيقاف حركة زعيم وحزبه؛ لا يرى “النظام” السياسي في المغرب أن حركته تتماشى مع مصالحه السياسية والاقتصادية، ويشكل تهديدا على الدوائر المخزنية المحيطة بنواة الحكم. ينضاف إلى هذا أن هذه الدوائر المخزنية يمثلها المستفيدون من الريع الناتج عن طريق استغلال السلطة في تدبير الاقتصاد، وهذا هو معنى الاستبداد أو “التحكم”.
هذا التحكم أو الاستبداد هو من صنع مسيرة الحولي البيضاوية، وزوّر انتخابات 7 من أكتوبر، وجمّع كل اللاديمقراطيين في حزب البام، وأمر أخنوش أن يكون على حزب الحمائم، ويلعب بالباطرونا للضغط على الحكومة، وهو نفسه اليوم من يحرك الوردة الذابلة والحصان “الطوكار”، كورقة أخيرة قبل قلب الطاولة لا قدر الله.
حقيقة، المشهد السياسي من الظاهر يوحي بأن العقل الذي يُشخص مصلحة النظام هو من يقيم هذا “البلوكاج” للحيلولة دون تشكيل السيد بنكيران لحكومة ولايته الثانية، بالشكل الذي يريد، وأن هذا الأخير تُمارس عليه الضغوط تلو الضغوط حتى يَضعف، ويستجيب لقانون اللعبة “الديمقراطية” المزيفة، التي يتقنها المحركون للدمى الشمعية والحجرية، فتخرج الحكومة تحمل في رحمها قنبلةً، يضغط على زرها اللاعبون على رقعة الشطرنج في الوقت المناسب، فتنفجر لتعطِّل كل مشاريع الإصلاح.
هذا من الظاهر أما الحقيقة لمن أراد أن يراها، فالذي يصنع “البلوكاج” ويمنع تشكيل الحكومة كل هذا الوقت، هو بنكيران وحزبه وبعض الشرفاء من حوله، ولو أراد بنكيران كرسي رئاسة على رقعة المربعات لقبل بالمتاح الذي تسمح به سياسة العفاريت، و”انتهى الكلام”. لكن الجلي الواضح هو أن هذه الإطالة غير المشوقة سببها أن بنكيران يمسك بـ”شعرة معاوية” ويعلم أنها إن انقطعت لم يبق له إلا الانتحار، أو يخرج إلى الميدان ليعلن لمن انتخبوه فشله في المبارزة مع الفساد والاستبداد، ويسلم للشعب السيف الذي سلمه له في السابع من أكتوبر الماضي.
بنكيران إلى حدود الساعة يلعب لعبة الأبله المغفل حين يُرخي يده ليجبذ العفاريتُ الشعرة حتى يقول المتفرج أنه استسلم، ثم يسحب يده بقوة، فتَسمع “للشعرة” صوتا يشبه عويل الثكلى وأنينها على حد وصف الشنفرى لصوت القوس عندما يخرج منها السهم.
لطالما سمعنا بشيء اسمه “الديمقراطية” وقصة عنوانها “الانتقال الديمقراطي” لكن يبدو أن كل ذلك كان أضغاث أحلام في فراش السياسة ودعاوى الإصلاح، أوحت بها عفاريت سراديب التخطيط، للبسطاء المحرومين، الذين صدقوا في يوم ما أن الصناديق الزجاجية أقوى من أنياب التماسيح ووسوسات العفاريت.
إن الخاسر الوحيد من هذا “البلوكاج” هو الشعب المغربي الذي صوت على الحزب الذي رأى فيه الصدق والشجاعة، ليشكل حكومة تَجِدُّ وتكد كي تمنحه عدالة في تقسيم الثروات، وتناضل حتى تصله حصته من خيرات وطنه، ويعيش بكرامة في بلاده التي روتها دماء آبائه وأجداده، عندما جادوا بأرواحهم وهم يقاتلون المحتل الفرنسي في جبال الريف والأطلس وصحاري الجنوب ووهاد الشمال، بغية أن ينعم أبناؤهم بالكرامة والعزة في ظل حكم رشيد، يجعل الدين أساسه، والعدل عماده، والرخاء بساطه، لكن لا شيء من هذا تحقق، فالدين غريب، والعدل غائب شريد، والرخاء طردته معاول الفاسدين. فهل أنهى “البلوكاج” لعبة “الديمقراطية” في الحياة السياسية المغربية؟؟
الجواب: ما سنرى لا ما سنسمع ونقرأ، فإما فتح للطريق في وجه المصلحين، وإما “رِدة” ستطال كل المؤمنين بالإصلاح الخارج من صناديق أصواتهم المبحوحة، المتعبة من كثرت التنديد والشجب للفساد والمفسدين؛ فنصبح وقد امتلأت شوارع المملكة بإخوة بنكيران وأخواته ومحبيهم وفي أيديهم شعارات من قبيل: “سلميتنا أقوى من الرصاص”.. أما الثالثة، وما أدراك ما الثالثة، فهي التواطؤ مع المفسدين لا قدر الله، والتي حتما ستكون ثالثة الأثافي التي ستجتمع لتَصنع كانونا يُغلَّى فوقه قِدْر كبيرة ستطهى في مائها عظام حزب بمرجعية إسلامية حلم يوما أن يلعب مع الكبار.
وضحت الرؤيا و علم كل أناس مشربهم..سلمت يمينك وبورك قلمك..
مقال رائع جدا. بارك الله فيك اخي. تجلت الرؤيا. رفعت الأقلام وجفت الصحف.
مقال رائع جدا. بارك الله فيك أخي .اتضحت الرؤيا. رفعت الأقلام وجفت الصحف.
تحليل عميق بارك الله فيك