هل استوعبنا ثقافة الاختلاف؟!
هوية بريس – رضوان العابدي
الاختلاف سنة من السنن الكونية التي أجراها الله في خلقه، فقد خلق الله عز وجل البشرية، وفطرها على الاختلاف، قال تعالى: “وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ”، ولا استمرارية للحياة بدون اختلاف، بل ولا معنى لها إذا كان الناس جميعاً نسخة مكررة.
لقد جعل الله الناس مختلفين في الأبدان والأذواق والمعارف والأفكار، فكل شخص له منهجية في التفكير خاصة به، لهذا نجد الآراء مختلفة والأفكار متنوعة، وقد تتفق أحيانا، وهذا أمر طبيعي.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف يتم إدارة الاختلاف؟ وكيف نجعل منه نقطة انطلاق للبناء وليس الهدم؟
الاختلاف ظاهرة إنسانية يستدعي الاعتراف بالآخر، واحترام آراءه وتقديرها، ومحاورته للوصول إلى المشتركات، وتقليل الخلافات وتضيقها، ثم الاشتغال على المشترك من أجل الإسهام في البناء، وتحقيق النتائج المتوخاة.
إن أروع ما في ثقافة الاختلاف هو أدبه لأنه يعتبر من أرقى الآداب الإنسانية وأعلى مراتب الأخلاق، وكفى به رقيا أنه يقبل الرأي الآخر، ولا يرفضه، أما رفض الآخر وعدم الاعتراف برأيه فهو مخالف لسنن الاجتماع البشري، ولا يمكن أن يؤدي إلى البناء الحضاري، بل سيؤدي إلى الانغلاق والتعصب، ومن هنا يبدأ الخراب والهدم بعينه.
الاختلاف رحمة، هكذا وصفه جماعة من السلف الصالح قال ابن عبد البر: “ومذْهَبِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ سَعَةٌ وَرَحْمَةٌ”.
وقال ابن تيمية: “وَالنِّزَاعُ فِي الْأَحْكَامِ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى شَرٍّ عَظِيمٍ مِنْ خَفَاءِ الْحُكْمِ”.
وقد وصف بالرحمة لأن فيه سعة في الأخذ بالآراء المختلفة، كما أن من مقتضيات هذه الرحمة أن تظهر بين المختلفين بحيث لا يرفض أحدهما الآخر، ولا يعاديه، وإنما يرحمه ويحترم رأيه وتوجهه، آخذا بمبدأ: “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصوب”.
أما الاختلاف الذي يؤدي إلى العداوة والأحقاد وتبادل الاتهامات بين المختلفين فليس اختلافا محمودا، بل هو من التفرق المذموم الذي نهى الله عز وجل عنه في قوله: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا“.
لاشك أن الاختلاف الذي يقود إلى الشقاق والقطيعة لا علاقة له بالرحمة في شيء، بل هو الشر كله، وهو اختلاف غير مشروع، ولن يسهم في البناء بل سيؤدي إلى الوهن والضعف، لأنه يغيب أرقى قيمة من القيم الإنسانية وهي قيمة التعاون.
إن مبدأ التعاون من أفضل المبادئ الكونية الذي ينبغي الأخذ به في المشتركات، أما المختلفات فليعذر بعضنا بعضا فيها، ومنه المقولة المشهورة: “لنتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”.
وهذه القاعدة تلخص لنا ثقافة الاختلاف، ومن استوعبها فقد استوعب كنه الاختلاف ومراميه.