هل الفن يعلو على المساءلة الشرعية؟
هوية بريس – نور الدين درواش
في غمرة الاحتفالات الموسمية التي تضج بها أرجاء العالَمَيْن العربي والإسلامي كما المغرب، وفي ظل الكم الهائل من الإنتاجات (الفنية) المسرحية والتلفزيونية والسينمائية، ومعه تتعالى أصوات العلماء والدعاة والمصلحين التربويين، المستنكرة لكثير من مظاهر مخالفة الشرع في هذه الإنتاجات بالنظر لما ورد فيها من نصوص شرعية من القرآن والسنة والإجماع.
فيكون الرد من قبل المتلبسين بهذه المخالفات (الفنانين): إن الرقابة الدينية لا يمكن أن تطال الفن لأنها تحجم الإبداع وتقمع الحرية وتحول دون تطوير الإنتاجي الفني ومعالجة الواقع كما هو دون “زواق”. وهكذا فكثير من الفنانين يزعمون أنه لا يُقبل أن يتدخل الدين في الفن.
فمشاركة المرأة -مثلا- في فيلم شبه عارية يضاجعها رجل في الفراش ويقبلها لا تعدو أن تكون عروضا فنية من جهة، ومن جهة أخرى فالحرية الشخصية مكفولة للجميع.
والحديث عن أن هذا حرام أو تفسخ أخلاقي أو أفلام إباحية حديث ديني قديم بال، يعود للقرون الوسطى المظلمة والمتخلفة، وفق ادعائهم.
وهي شبهة ما أكثر ما تتكرر، حتى خال كثير من الناس أن الفنانين قوم عندهم ورقة بيضاء وصك على بياض مفاده: “اعملوا ما شئتم ولا أحد من حقه أن يمنعكم ولا أن ينكر عليكم”.
وللجواب عن هذه الإشكالية لابد من التذكير ببعض المسلمات القرآنية.
حين خلق الله الإنسان فإنه أناط به التكليف وأنزله إلى الأرض.
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} [الأحزاب:72].
وقد بعث سبحانه وتعالى الأنبياء لبني البشر ليدلوهم على مراد الله منهم فما تركوا شيئا مما هم ملزمون بفعله أو بتركه إلا بينوه للناس.
قال تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا. فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} [النساء:64-65].
فبين سبحانه أن الأنبياء والمرسلين تجب طاعتهم والامتثال لأوامرهم، وأن هذا هو محض التكليف والأمانة التي حملها الإنسان.
وحين رفض إبليس وهو ليس من البشر الامتثال لأمر واحد وهو السجود لآدم؛ لعنه الله وأبعده وغضب عليه.
قال سبحانه: {وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰٓ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّٰجِدِينَ قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ ٱلسَّٰجِدِينَ قَالَ لَمۡ أَكُن لِّأَسۡجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقۡتَهُۥ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ وَإِنَّ عَلَيۡكَ ٱللَّعۡنَةَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ} [الحجر:33-36].
وهكذا فإن الإنسان بعد بلوغ الرسالة {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا} [الإسراء:15] يكون ملزما بالطاعة وفي حال التمرد والإعراض والعصيان يكون مستحقا لعقاب الله وعذابه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا.
فقد عاقب الله سبحان عصاة الرسل المعرضين عن طاعتهم عبر التاريخ، وممن خلد القرآن ذكر عقابهم قومَ نوح ومدين وعاد وثمود وقوم لوط … وغيرهم بالطوفان أو الصيحة أو الخسف أو غير ذلك، وهذا في الدنيا أما الآخرة فقال الله عن عذابها:
{وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَشَقُّۖ} [الرعد:34].
{وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبۡقَىٰٓ} [طه:127].
{وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَخۡزَىٰۖ} [فصلت:16].
{وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} [الزمر:26].
وأمتنا أمة مرحومة ولكنها ليس مستثناة من التكليف ولا هي معفاة من الحساب يوم القيامة.
وعليه فلا أحد يعلو على التكليف الرباني والحساب الأخروي، فالسياسي كما القاضي كما التاجر والاقتصادي كما العالم كما الفنان والأديب والصحفي كلهم محاسب على أقواله وأفعاله التي صدرت عنه بقصد ومعرفة.
{إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} [الإسراء:36].
{وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَيِّنٗا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ} [النور:15].
وقد بين القرآن أن كثيرا من الغافلين الظالمين سيستنكرون ما كتبه الملائكة في صحائف أعمالهم.
قال سبحانه: {وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا} [الكهف:49].
وحين استهزأ بعض المنافقين في زمان النبوة بالقُرَّاء وأُنكر عليهم، تذرعوا بأن فعلهم لا يعدو أن يكون مزاحا وضحكا (إبداع)، فنزل القرآن حاكما عليهم: {وَلَئِن سَأَلۡتَهُمۡ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلۡعَبُۚ قُلۡ أَبِٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمۡ تَسۡتَهۡزِءُونَ، لَا تَعۡتَذِرُواْ قَدۡ كَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡۚ إِن نَّعۡفُ عَن طَآئِفَةٖ مِّنكُمۡ نُعَذِّبۡ طَآئِفَةَۢ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ مُجۡرِمِينَ} [التوبة:65-66].
إن التحرر وإن زُين لكثير من الناس وقدم لهم على أنه رقي وتقدم هو مجرد خروج عن عبودية الله مستوجب لعقابه وهذا هو منطوق آيات القرآن الكريم التي لا ينبغي أن نتحرج من رفعها في وجوه المتسيبين المحرفين للفطرة والمفسدين للشعوب باسم الفن والأدب والإبداع..
فالرقابة الإلهية لا تفرق بين المسجد والإدارة والمحكمة، ولا بين المدرسة التلفاز، ولا بين البيت والمسرح، ولا بين الكتاب الديني والرواية أو السيناريو.
{يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ أَحۡصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} [المجادلة:6].
الله الموافق والهادي.