هل المطلوب من القدوة أن يكون معصوما؟

05 سبتمبر 2024 15:44

هوية بريس – عبد الواحد رزاقي

لم يكن آدم عليه السلام أبو البشر ملكا أومن الجن، بل بشر تجري في عروقه دم المخلوق الأول الذي خلقه الله تعالى من ماء وطين وجعل نسله من ماء مهين.

نهاه ربه وزوجه حواء عن الأكل من الشجرة فوسوس لهما العدو الأبدي إبليس اللعين، فزين لهما المعصية بإيهامهما بأن قضم الثمرة ضمان للخلود في الجنة أو أن يصيرا ملكين. فضعفا وارتكبا المحظور، فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة. فلما ذكرهما ربهما بما أخذه عليهما من عهد والتزام، اعترفا بذنبهما واستغفرا ربهما فتاب عليهما وعفا عنهما رحمة منه ونعمة وهو المنعم صاحب الخلق والأمر سبحانه.1

إن آدم عليه السلام نبي الله خلقه الله عز وجل بيده وأسجد له ملائكته لشرفه ومكانته ولم يمنعه ذلك من الوقوع في المعصية ونسيان أمر الله بعدم الأكل من الشجرة. وعليه فارتكاب المعصية مركوز في طبيعة الإنسان واقترافها منتظر منه لضعفه ونسيانه بسبب شهوة النفس ووسوسة الشيطان واتباع الهوى.

وقد يسأل سائل إبليس وآدم كلاهما ارتكبا المعصية، فلم تم العفو على آدم ولم ينل ذلك إبليس؟

إن الفرق شاسع بين الفريقين. فإبليس أمره الله بأمر فلم يفعل تكبرا وعجبا وحسدا، بينما آدم عصى ربه ليس بسبب جحود وإصرار. ودليل ذلك أنه لما نبههما ربهما وذكرهما بصنيعهما، اعترفا بذنبهما واستغفرا وتابا والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وعليه فالاعتراف بالذنب ودوام الاستغفار كفيل بنيل مغفرة الله ورحمته وعفوه.

انطلاقا مما سبق فإن القدوة أي النموذج الذي يحتذى والمثال الذي يقاس عليه، ليس أفضل من آدم عليه السلام، ومقامه السامي لا يجعله بمنأى عن المعصية والوقوع في المخالفة. وجرت العادة أن ينظر الناس إلى القدوة – وقد يكون إمام مسجد أو فقيها أو عالم شريعة أو قياديا في حركة إسلامية – على أنه معصوم لا يتصور أن يرتكب معصية وبالأحرى كبيرة من الكبائر.

ولننظر ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سئل أسئلة فقال:(أيزني المؤمن؟ قال: نعم، أيسرق؟ قال: نعم، قالوا: أيشرب الخمر؟ قال: نعم، قالوا: أيكذب؟ قال: لا) قال العلماء: لأن أعظم الذنوب التي يعصى الله عز وجل بها الكذب، حتى إن الشرك فيه كذب على الله عز وجل، وافتراءٌ عليه، ولذلك تبوأ الكذب هذه المكانة -والعياذ بالله عز وجل من السوء والإثم- ولأن الكذب يتضمن فساد الظاهر والباطن، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون المؤمن كذاباً، وقال بعض العلماء: إن الإنسان إذا كذب وألف الكذب قل أن يستقيم له لسان -والعياذ بالله- على طاعة الله عز وجل، إذا كان لسانه دائم الكذب فإنه يلعنه الله عز وجل، فلا يستقيم له لسان على طاعة الله، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الكذب من علامة المنافق، فقال: (إذا حدث كذب) فالكذب لا خير فيه، فلعظيم ما فيه من النفاق والتدليس والغش بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن الصادق لا يتلبس به.2

وأما بالنسبة للزنا وشرب الخمر والسرقة، فإنه قد يسرق الإنسان وهو مؤمن، قد يسرق لوجود الحاجة ووجود الضرورة إلى المال، أو يسرق لغلبة الفتنة بالدنيا، ولكن مع هذا لا يصل إلى ما يصل إليه الكاذب، وهكذا بالنسبة للزنا، وصحيح أنه انتهاك للأعراض واقتراف لفراش المسلم، وأذية له، خاصةً إذا كانت المرأة متزوجة، ولذلك عد النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر أن يزاني الرجل بحليلة جاره -والعياذ بالله- فالزنا ذنب عظيم، وقد وصفه الله عز وجل بأنه: (فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) الإسراء:٣٢. ولكن لا يصل إلى ما يصل إليه الكذب؛ لأن الكذب يمكن أن يكون في مرحلة من المراحل سبباً في سفك الدماء، فلو جاء إنسان وكذب على قبيلة، وكذب على قبيلة أخرى، وأوقع بينهم الشحناء لسالت دماء بكذبة واحدة، فلذلك الكذب بلاؤه عظيم وشره كبير، وعظَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمره وأخبر أنه لا يصل إلى ما يصل إليه الزنا من الإثم والخطيئة.3

فقال العلماء: لعظيم ما يكون من الكذب إلى درجة أنه قد يكون سبباً في الشرك والكفر بالله عز وجل، نفاه النبي صلى الله عليه وسلم عن المؤمن، بخلاف المعاصي التي لا يسلم الإنسان منها في بعض الأحيان؛ لضعفه وغلبة الشهوة عليه.4

مما سبق يتبين أن المعصية واردة من قبل المسلم وأن العصمة مكتوبة للأنبياء والرسل فحسب، وسائر بني آدم معدن الخطأ مجبول على فعله، والمطلوب منه تدارك ذلك بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الله.  وقد جاء في الحديث:( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ). الراوي : أبو هريرة | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم 5

اللهُ يُحِبُّ التَّائبينَ ويَدعو عِبادَه إلى التَّوبةِ ويُرَغِّبُهم فيها، فيَتوبُ على مَن تابَ ويَغفِرُ الذَّنْبَ، ويَصبِرُ على العُصاةِ حتَّى يَتوبوا بالنَّدمِ على الذُّنوبِ والمَعاصي، مع الرُّجوعِ إلى اللهِ وطَلَبِ العفوِ والمغفِرةِ منه سُبحانه، مع النِّيَّةِ الصَّادقةِ لعَدَمِ العودةِ إلى الذُّنوبِ والمَعاصي.6
وفي هذا الحديثِ يَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «والَّذي نَفْسِي بيَدِه» وهو قَسمٌ كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَثيرًا ما يُقسِمُ به، فاللهُ عزَّ وجلَّ هو الَّذي يَملِكُ الأنفُسَ بالإحياءِ والإماتةِ، «لوْ لمْ تُذْنِبوا» أي: لوْلا وُقوعُكم في الذُّنوبِ، لَخِفْتُ عَليكُم ما هُو أكبَرُ مِن ذلكَ، أَلا وهُو العُجْبُ، ولَكُنتُم كالملائكةِ، وإذا وقَعَ ذلك لَأذْهَبَكم اللهُ وأفْناكم، «ولَجاءَ بقَوْمٍ يُذْنِبونَ»، وفي رِوايةٍ أُخرى لمسْلمٍ: «لَخَلَقَ اللهُ خَلقًا يُذْنِبونَ» أي: أتى اللهُ بخَلقٍ جَديدٍ غيْرِكم مِن جِنسِكم، أو مِن غَيرِكم يَقَعون في الذَّنْبِ؛ فيَستغْفِرونه ويَتوبون، فيَغفِرُ لهم ذُنوبَهم لِأجلِ تَوبتِهم تلك.

وحاصلُ هذا الحديثِ أنَّ اللهَ تَعالَى سَبَق في عِلمِه أنَّه يَخلُقُ مَن يَعصِيه، فيَتوبُ، فيَغفِرُ له؛ وذَلكَ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّ مِن عَبدِه مَقامَ العُبوديَّةِ الَّذي هُو مُنتَهى الذُّلِّ مَع مُنتَهى الحُبِّ، وَليسَ في الحَديثِ مُواساةٌ لِلمُنْهَمكينَ في الذُّنوبِ، وإنَّما فيه بَيانُ عَفوِ اللهِ تَعالَى وتَجاوزِه عنِ المُذنبينَ التَّائبينَ؛ ليَرغَبوا فِي التَّوبةِ إلى اللهِ فيَتُوبوا، وليُبَيِّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ اللهَ سُبحانَه كَما يُجازي الُمحسنينَ بِإحسانِهم فإنَّه يَعفو ويَصفَحُ عنِ المُذنِبينَ.7

لكن بفعل مجموعة من الأمور يمكن التغلب على المهلكات من الذنوب خصوصا إذا كان المعني بها في موقع الصدارة والإمامة والقدوة:

-الابتعاد عن الشبهات وقطع الطريق عن إبليس الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، طبقا للحديث النبوي المشهور الذي يمثل للدائر حول المعصية كالراعي الذي يرعى ماشيته حول الحمى غلة الغير وبستانه يوشك أن يقتحمه وللحكمة القائلة (الباب الذي سيدخل منه الريح أغلقه واسترح).

-اجتناب الخلوة بالأجنبية بدعوى الرقية الشرعية فتلك فخاخ إبليس اللعين ينصبها لصيد الفرائس الآدمية لتحطيم القدوة وإشاعة الفاحشة في المجتمع. فإذا سقطت القدوة وغاب النموذج وجد ضعاف النفوس الفرصة سانحة لاقتراف الآثام والتمادي في المعاصي.

-مصاحبة الأخيار والتزام الخيرين الذين إذا ذكرت الله أعانوك وإذا غفلت نبهوك.

-استشعار المسؤولية التي يتحملها القدوة ومراقبة الله عز وجل ومحاسبة النفس.

-الاستعانة على عقبات الدنيا بقيام الليل والصلاة والناس نيام والتضرع للباري تعالى بطلب العون والتوفيق والسداد والعصمة.

 الهوامش:

1 وردت القصة كاملة في سورتي البقرة والأعراف بإسهاب وفي غيرهما من السور.

2،3،4 موقع  https://shamela.ws/book/7683/910

5/6/7 موقع https://dorar.net/hadith/sharh/6

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M