بما أننا نتدافع في عالم اليوم كأحزاب وكجماعات للوصول إلى السلطة، أو إلى إصلاح ما صح عندنا فساده بأدلة قاطعة، فلا بد أن نكون على بينة من كون الخصوم الأيديولوجيين يحيطون بنا من كل جانب! وأن الوصول إلى الأهداف التي جعلناها نصب أعيننا لن يكون بالسهولة المتوقعة! وبما أن محور حديثنا هو مسمى “المنهاج النبوي”، فلا بد لنا من البحث عن إجابات حاسمة على هذه التساؤلات:
1ـ ما هو هذا المنهاج المبتكر الذي يدور على ألسنة من يصرحون بأنهم قد اختاروه عن طواعية، وعن وعي عميق منهم بمدلوله، دون غيره من المناهج التي تؤدي إلى تحقيق أهداف بعينها مرسومة بدقة متناهية؟
2ـ هل المنهاج النبوي، منهاج ديني تعبدي (=طريقة صوفية) يرمي المتشبثون به إلى نيل رضى الله في الدارين، كما يرمي الزهاد أو العباد (بالتشديد على الباء وفتحها) إلى نفس الغاية؟
3ـ أم إنه منهاج سياسي في حلة دينية لصرف الأنظار عن المقصود الحقيقي من وراء اعتماده؟
4ـ أم إنه منهاج هو مزيج من الدين والسياسة، دون أن تغيب الأهداف المطلوبة من خلال التعلق به، إن تم لأصحابه إتقان تطبيقه؟
5ـ أم إنه منهاج مرحلي، لا بد من تجاوزه متى اقتنع المؤمنون بنجاعته، أن دوره المحدد بعناية فائقة قد انتهى، خاصة وأن واضعه قد انتقل من مرحلة كان فيها يشارك إخوانه في إقامة “العمارة” بحضرة شيخه مرة، وفي غيابه مرة… ومن بين إخوانه أولئك منذ عقود: وزير الأوقاف الحالي.
6ـ هل توجد حدود فاصلة بين كيفيات التعبد لدى الطرقيين (وهي بدعية) وكيفية التعبد لدى الملتزمين بالمنهاج النبوي، إذ من المعلوم عندنا بالمعاينة أن هؤلاء الملتزمين به، يصلون جماعة -كلما أقاموا الليل في بيت أحدهم- مسمى الوتر النبوي! فضلا عن كون شيخهم يحدد أذكارا بعينها لأتباعه في السر لا في العلن. فقد أخبرني أستاذ ثقة بأنه أمره أن يذكر كلمة الإخلاص بعد صلاة صبح كل يوم (1500 مرة)؟
تساؤلات نبحث عن الأجوبة المناسبة لها في التعريف الذي حاول تحديده للمنهاج النبوي، من ينسب إليه وضعه أواخر السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم. وذلك على إثر انشقاقه عن زاوية طرقية غزتها الهدايا المخزنية علانية في وضح النهار كما قال.
يقول في “الإسلام بين الدعوة والدولة”: “وننظر الآن إلى الحجة التاريخية القاطعة في حياتنا المعاصرة على أن العنف لن يكون أبدا طريق المسلمين إلى الانبعاث (= عنف الاشتراكيين والشيوعيين قبل أي عنف آخر غيره؟)، وكيف يكون (كذلك)، وهو مخالف للمنهاج النبوي”؟ ثم يضيف في نفس الكتاب: “وقد ترك لنا التاريخ أمثلة لاهتداء المؤمنين وتدرجهم في معارج الرقي الروحي (= المقامات بالتعبير الصوفي) على المنهاج النبوي، الكامن سره في كتاب الله وسنة نبيه، ونحن نكتب أساسا لنجلي هذا المنهاج ولنقتنع بنجاعته لنتخذه مفتاحا للمستقبل المشرق بنور الهداية”؟
فنكون -وقد قرأنا النصين- أمام تلويح ب”المنهاج النبوي” لا أمام تصريح به. إنه متناقض في تعريفه مع العنف لتحقيق انبعاث الأمة من جهة، وهو في ذات الوقت وسيلة تمكننا من الرقي الروحي، لا من الرقي المادي لتفادي التطفل على من سبقونا في هذا المجال. إنما ما هو هذا المنهاج على وجه التحديد؟ أو ما الذي يعنيه بعبارة ثانية؟
في نفس الكتاب يقول واضعه معززا قوله بالقسم: “أما والله لن يكون لنا شأن إن لم نرجع إلى الإسلام على كتاب الله وسنة رسوله وعلى المنهاج النبوي الكامل، الذي يرقى بالمسلم ويربيه على الإيمان والإحسان، ويحرر عقله وإرادته من ظلام الجاهلية إلى نور الله (الذي) نمشي به في الناس”؟
والرجل -سامحه الله- في فقرته هذه، لم يكن ملزما بالقسم كي يخبرنا بما أخبرنا به؟ فالمنهاج الذي يحوم حوله، لم يوضح مدلوله بعد! يكفي أنه وضع حدا فاصلا بين ثلاثة مفاهيم، حين عطف سنة رسول الله على كتاب الله، وحين عطف المنهاج النبوي على سنة رسول الله! مما يعني أننا أمام ثلاث ماهيات: ماهية هي القرآن. وماهية هي السنة التي تعني أقوال رسول الله وأفعاله وتقريراته (إلا إذا كان لدى صاحبنا مفهوم آخر للسنة؟). وماهية ثالثة هي المنهاج النبوي الذي نتوقع منه تحديد مدلوله، كي نميزه عن الماهيتين المتقدمتين قبله؟
وفي نفس كتاب واضع المنهاج النبوي: “الإسلام بين الدعوة والدولة”. وبإيحاء من الزاوية التي تخرج منها دون أن ينكر فضل شيخها عليه، كما ورد بوضوح في كتابه المشهور “الإسلام أو الطوفان” يقول: “والسيد الجليل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- سيد السنيين. والسنة هي المنهاج؟؟؟ والمنهاج صحبة وجماعة وذكر بالمبايعة الصادقة الوفية”!!!
والتناقض هنا في كلام الأستاذ الشيخ، المرشد الداعية (وكلها ألقابه)، فاغر فاه! فعبد الله بن عمر ليس سيد السنيين (وهذه كذبة)، وإلا حل محل رسول الله الذي هو كذلك بالفعل؟ أو حل محل الخلفاء الأربعة الراشدين، ومن ضمنهم والده عمر بن الخطاب الذي بدا لمبتكر المنهاج أن ولده عبد الله أفقه منه بالسنة؟؟؟ من جهة أخرى، يخلط الرجل أو يلفق – غفر الله له – حين يزعم أن “السنة” هي “المنهاج”! والحال أنه ميز بينه وبين السنة والقرآن في النص المتقدم الذي حللناه؟ والتلفيق – حتى يفهم قصدنا – هو التمويه والافتراء والاختلاق والتزوير؟؟؟
ويزيد الطين بلة عندما قال في العدد السابع من مجلة “الجماعة” (ص12): “المنهاج النبوي الموعود أن تقوم الخلافة به كما جاء في الحديث الصحيح (أي حديث وما مصدره؟)، هو الطريقة (أي إن المنهاج ليس هو السنة؟) التي بها يستعيد المسلمون معاني الرسالة حتى يشخصوها ويبلغوها وينقذوا بها العالم، وتبدأ في تربية المؤمن كامل الإيمان، فإحلال المجتمع الإسلامي محل المجتمع الفتنوي، فإقامة دولة الإسلام، ويقتضي المنهاج النبوي ( طريقة هو أو سنة؟) تطبيق أحكام الله كلها بتدرج، لكن بلا تحريف ولا مراوغة”.
وحتى نكون أكثر وضوحا، نؤكد أن أيا من المحدثين، لم يقل إن السنة “منهاج نبوي”! ولا قال: إن المنهاج صحبة وجماعة وذكر إلى آخره… وإلا فنحن أمام ما يشبه النظرية الهندسية القائلة: الخطان المتساويان لثالث متسويان: السنة = المنهاج! والمنهاج = الطريقة، بحيث تكون السنة في النهاية هي الطريقة؟ مما يعني أن السيد المرشد، لم يتخلص من لوازم الطريقة التي تربى على يد شيخها العباس بن المختار، ثم على يد شيخها لاحقا حمزة بن العباس الذي أخبرنا بأنه كان مريدا له؟؟؟
فضلا عن كون السنة لدى علماء الأمة في مشارق الأرض ومغاربها، هي -كما قلنا- أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته… ولا ذكر في القرآن للطريقة بالمفهوم الذي يريده لها الطرقيون! وواضع المنهاج النبوي الذي جعل المنهاج مرادفا للسنة والطريقة، واحد من هؤلاء؟ وإلا فإن بيننا وبينه وبين أتباعه القوائم (= الحجج والبراهين). ففي القرآن الكريم ذكرت “الطريقة” مرة واحدة على أنها “معرفة”. وذكرت مرة واحدة على أنها “نكرة”. قال تعالى: “وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا”. ومعنى العبارة لدى الإمام القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن”: لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق. وقال سبحانه: “إذ يقول أمثلهم طريقة إن لببثتم إلا يوما”. ومعناه عند نفس الإمام أن أمثلهم طريقة هو العاقل فيهم، أما غير العاقل فأبعد ما يكون عن سبيل الرشاد، وإلا فأي عقل لدى من يقرأ قوله تعالى: “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر”. لكنه يجعل من مشايخ التصوف أسوة له، بحيث إنه ائتمنهم على دينه؟ والحال أن المؤتمنين من مشايخ الطرق، يبعدون مريديهم وأتباعهم عن سبيل الله المستقيم، يبعدونهم عن صراط الله المسلوك وحده لنيل سعادة الدارين. وإلا فمن يجرؤ من علماء الأمة ليقول لنا: إن نبينا كان يعقد حلقات للذكر الجماعي مع صحبه الكرام البررة، الذين يرقصون ويتمايلون بحضروه يمنة ويسرة؟ ومن يجرؤ منهم على القول بأنه عليه الصلاة والسلام كان يذكر معهم الله جماعة بالاسم المفرد (الله الله الله)؟ ومن يجرؤ على القول بأنه أباح لأمته ما نفاه وحذر منه الله تعالى في قوله: “ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون”؟ وحذر منه في قوله سبحانه: “ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم”؟
فمسمى المنهاج النبوي إذن بتعريفاته المخلخلة المتناقضة والمضطربة كما قدمه صاحبه، لم نجده بالمفهوم الذي أراده له إلا لدى الطرقيين “صحبة وذكر وجماعة ومبايعة”! بينما ورد “المنهاج” في القرآن مرة واحدة في سورة “المائدة”، حيث يقول سبحانه: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”؟
فإن كانت “الشرعة” هي “الشريعة”، فإن المنهاج “هو الطريق المستمر”، وهو نفسه السنة بمعنى آخر، والسنة لغويا هي الطريقة والسيرة. إنها من الله حكمه في خلقه، وهذا ما يفهم من قوله: “سنة الله في الذين خلوا من قبل”، ومن قوله: “ولن تجد لسنة الله تبديلا”.
وسنة الله كما هو بين، تختلف تماما عن مسمى “المنهاج”، كما تختلف تماما عن سنة رسول الله. فسنته لدى العلماء -كما أوضحنا- هي ما صح عنه، وما نسب إليه من قول وفعل وتقرير. فالسنة في الشرح إذن هي الطريقة المرضية في الدين عامة، لا الطريقة التعبدية الجزئية المنسوبة إلى هذا الشيخ أو ذاك! وكأن المسلمين مدعوون إلى التنافس في ابتداع طرق مخالفة تماما لسنة رسول الله في المعتقدات، وفي العبادات، وفي المعاملات، فرحم الله من عرف قدره ووقف عنده؟؟؟