هل تدخل الجزائر منطقة العزلة الكاملة؟
هوية بريس – بلال التليدي
كما كان متوقعا، بدأت الجزائر استعمال بعض أوراق الضغط على مدريد لإجبارها عل تعديل موقفها من الصحراء المغربية، فقد قرر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في بحر هذا الأسبوع تعليق اتفاقية الصداقة وحسن الجوار والتعاون مع اسبانيا، وتم إصدار تعليمات صارمة من قبل الجمعية المهنية الجزائرية، بمنع أي عملية توطين بنكي لإجراء عملية استيراد من اسبانيا، وهو ما يعني إنهاء عملية التبادل التجاري بين الجزائر واسبانيا (توقيف الصادرات والواردات من وإلى اسبانيا).
يأتي هذا الموقف الحاد من قبل الجزائر، بعد أن فشلت الضغوط الدبلوماسية التي مارستها الخارجية الجزائرية على حكومة بيدرو سانشيز على خلفية اتخاذ بلاده قرارا بدعم المقترح المغربي للحكم الذاتي، وبعد أن لم تنفع قرارات تخفيض نسب إمداد الغاز إلى مدريد.
حكومة مدريد تفاعلت في أكثر من مرة مع مواقف الجزائر، مؤكدة أن تغيير موقفها بخصوص قضية الصحراء هو قرار سيادي، تضمنه المواثيق الدولية. كما تفاعلت بشكل سريع مع تحذير الجزائر لها بتمكين المغرب من غازها عبر خط أنابيب المغرب العربي (إمداد معكوس) بأنها لا يمكن أن تقوم ببيع الغاز الجزائري إلى المغرب، وأنها فقط، تقوم بمعالجة الغاز المسال الذي يشتريه المغرب من الأسواق الدولية في معاملها، وتمده إلى المغرب عبر أنبوب الاتحاد المغاربي، متعهدة للجزائر بتقديم كافة البيانات التي تثبت اقتناء المغرب للغاز من الأسواق الدولية.
لحد الآن، ثمة التباس كبير في الموقف الجزائري، وهل يشمل القرار واردات الغاز نحو مدريد، أم أن تصريحات الرئيس الجزائري السابقة، التي تعهد بها بعدم قطع إمدادات الغاز عن اسبانيا، ستبقى هي الأساس في تفسير هذا القرار واستثناء الغاز الجزائري؟
مهما يكن، فسياق إنتاج القرار وحيثياته، تشير إلى أن الجزائر، بعد أن أدخلت معامل قضية الصحراء في تكييف علاقاتها الخارجية، أضحت تعيش مرحلة ضيق شديد في الخيارات، هذا إن لم تكن مقبلة على مرحلة عزلة كاملة.
بعض المحللين من الجزائر، يعتبرون قرار الرئيس الجزائري، ورقة مهمة للضغط على اسبانيا، وأن مدريد، كما خضعت للمغرب، وغيرت موقفها، فإنها كذلك لن تتحمل كلفة هذا القرار، وتداعياته على اقتصادها، وأنه على الأقل، يمكن للجزائر بهذه الورقة أن تلجأ مدريد إلى مربع الحياد.
لكن، من منظور مقارن، ثمة فرق كبير بين الحالتين (حالة المغرب وحالة الجزائر) وذلك من ثلاث جهات، الأولى، أن أوراق المغرب، كانت أكثر قوة من أوراق الجزائر، لأن الأمر لم يكن متعلقا فقط بمبادلات تجارية، تصل ـ حسب المكتب الاقتصادي والتجاري بسفارة اسبانيا في الرباط ـ إلى حوالي 16.8 مليار يورو خلال السنة الماضية، وإنما تتعلق بقضايا أمنية واستراتيجية بالغة التعقيد، منها وضع سبتة ومليلية، ومنها التعاون الأمني في مكافحة الهجرة غير النظامية والإرهاب والجريمة العابرة للحدود، ومنها ما يرتبط بالامتداد في العمق الإفريقي.
في حين، فإن المبادلات التجارية الجزائرية مع اسبانيا، بما في ذلك المحروقات التي تشكل الصادرات الأساسية للجزائر نحو مدريد، لا تتعدى 8 مليارات دولار، وعلى الرغم من إصرار الجانب الإسباني على توجيه طلب للجزائر من أجل تقوية أوجه التعاون الاقتصادي والتجاري مع الجزائر، وتداعي الطرفين لعقد المنتدى الاقتصادي لرجال أعمال البلدين، لتحقيق هذا الهدف، إلا أن الحكومة الإسبانية لا تزال تصف السوق الجزائرية بأنها مغلقة.
الثانية، أن المغرب رغم حدة التوتر الذي دخلت إليه العلاقات المغربية الإسبانية، إلا أنه دبر هذا الصراع بهدوء، وأخذ زمنه الكامل (أكثر من تسعة أشهر) ودون أن يضطر إلى قطع علاقاتها التجارية مع اسبانيا.
وأما الجهة الثالثة، التي تخص قضية الإمدادات الطاقية، فثمة تباين شديد في تقدير حجم هذه الورقة، وما إذا كانت تمثل قوة ضغط، أم أنها باتت بفعل أزمة الطاقة في العالم، ورقة بغير أثر، وذلك بفعل عامل الجغرافيا من جهة، وعامل التقنية من جهة ثانية، وعامل السياسة من جهة ثالثة.
بفعل عامل الجغرافيا، يمكن للجزائر أن توقف الإمدادات الطاقية عن اسبانيا دون أن تسقط في فخ وقف الإمداد عن أوروبا، وبالتالي فتح جبهة الصراع المفتوحة مع أوروبا، فهي تستطيع أن تجعل من روما وجهتها المفضلة بدلا عن اسبانيا.
لكن، عامل التقنية لا يساعد الجزائر في ذلك، ففضلا عن ضعف سعة الإمدادات الطاقية إلى اسبانيا بسبب اضطرار الجزائر إلى وقف استعمال الأنبوب المغاربي، والاستعاضة عنه بأنبوب «ميد بميد غاز» فإن خط الأنابيب الذي يربط حقولها بإيطاليا، لا يمكن أن يفي بالغرض، ويمكن أن يتسبب في نقص الإمدادات من الطاقة لأوروبا، وستتكبد خسائر كبيرة بسبب تباطؤ صادراتها من مصادر الطاقة إلى القارة العجوز.
أما عامل السياسة، فيفسره زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن السابقة للجزائر، وتأكيد الرئيس الجزائري، بعد ذلك بأن بلاده لن توقف الغاز عن اسبانيا، مع ما فعلت من تغيير موقفها من الصحراء، وأن الجزائر تميز في ذلك بين الدولة والحكومة.
من منظور استراتيجي، يبدو أن القرار الجزائري، الذي ربما قصد به الرئيس الجزائري إيلام مدريد، وجرها إلى مربع الحياد في موضوع الصحراء، يأتي في سياق تزداد فيه عوامل عزلة الموقف الجزائري.
فمن الناحية السياسية والدبلوماسية، فقد فتحت الجزائر ثلاث جبهات وبشكل متزامن، جبهة مع الرباط، وأخرى مع فرنسا، وثالثة مع اسبانيا، فباريس، جمدت منذ مدة استثماراتها في الجزائر، بسبب عدم وجود بيئة مناسبة للاستثمار، كما وجه النظام الجزائري ضربات كبيرة للمصالح الفرنسية في الجزائر، شملت على وجه خاص قطاع صناعة السيارات (مصنع رونو بوهران).
ومن الناحية الاستراتيجية والأمنية، توجد اليوم، في معادلة صعبة في الجزائر، وذلك بسبب تداعيات قرار السلطات المالية، بإيقاف اتفاقية الدفاع مع باريس، وسحب فرنسا لقواتها من مالي، وتوجه بامكو إلى طلب الخدمة الفنية الأمنية الروسية (شركة فاغنر) وما تلا ذلك، من تقوية العلاقات الدبلوماسية مع موسكو، وتعزيز النفوذ الروسي في المنطقة.
هذه التحولات الأمنية الاستراتيجية، ينظر إليها كل من الناتو، والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، والمغرب، ودول غرب إفريقيا، من منظور وجود شراكة جزائرية روسية، توفر فيها الجزائر الجغرافيا للتمدد الروسي في المنطقة.
ما يؤكد ذلك أن التطورات إلى الآن، لم تتوقف للتعبير عن هذا الاحتقان، ففي ظرف أسبوع (ما بين 24و 31 مايو) زار مسؤولان عسكريان كبيران المغرب، بقصد تكثيف التنسيق والتعاون لمواجهة التحديات الأمنية، ويخص الأمر قائد جيوش موريتانيا، ورئيس أركان السينغال، كما زار الأمين العام المساعد للشؤون السياسية والأمنية بالحلف، خافيير كولومينا، موريتانيا (فاتح يونيو) بقصد بحث مجالات التنسيق والتعاون والوضعية الأمنية في منطقة الساحل، وإعلانه عن اتخاذ الحلف لإجراءات خلال أشهر لتكثيف التعاون مع موريتانيا التي وصفها بأنها دولة محورية في المنطقة، وشريك رئيسي للحلف».
عقب ذلك، صادقت دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (الإيكواس) على اتفاقية مرور أنبوب الغاز من نيجيريا إلى أوروبا عبر المغرب، بما يعني إنهاء حلم الجزائر بالفوز بهذه الصفقة، هذا فضلا عن مناورات عسكرية جزائرية على مشارف الحدود المغربية، قصد استباق عملية الأسد الافريقي، التي يتوقع، أن تنطلق في العشرين من يونيو، وتشارك فيه الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأجنبية والافريقية، وتشمل للمرة الثانية على التوالي، منطقة «المحبس» في الصحراء، وعلى خط التماس عند الحدود مع الجزائر.
واضح من خلال الأهداف المعلنة وطبيعة التدريبات، أن منطقة الساحل جنوب الصحراء هي في بؤرة الرسائل السياسية، فقد تم الإعلان بشكل رسمي أن الهدف من مناورات «الأسد الأفريقي 2022» هو تطوير قابلية العمل المشترك التقني والإجرائي بين القوات المسلحة الملكية وقوات البلدان المشاركة، وكذا التدريب على تخطيط وقيادة عمليات مشتركة في إطار متعدد الجنسيات» وأنها ستشمل تدريبات على عمليات مكافحة الجماعات الإرهابية، وعلى إزالة التلوث (النووي والإشعاعي والبيولوجي والكيميائي).
هذه المعادلة الصعبة، تكشف ضيق الخيارات التي توجد عليها الجزائر، فهي في شبه أزمة مع أوروبا، بسبب توترها الدبلوماسي مع كل من فرنسا واسبانيا، ويمكن أن تترشح هذه الأزمة إلى أعلى المستويات في حالة الإقدام على قرار وقف إمدادات الطاقية عن مدريد، وهي في أزمة أخرى، مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول الناتو، بسبب علاقاتها الأمنية والاستراتيجية بروسيا، ودورها في التمكين الروسي في منطقة الساحل جنوب الصحراء، وهي في أزمة مع دول غرب إفريقيا، للسبب ذاته، بحكم أنه ليس من شرط النفوذ الروسي في المنطقة، إنهاء الحكم العسكري في مالي، وتسليم السلطة للمدنيين عبر إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، وأن من شأن ذلك أن يمثل تهديدا أمنيا لكافة دول المنطقة.