هل تنقذ الحربُ على «الإرهاب» الحضارةَ الغربية من السقوط؟؟
هوية بريس – ذ. إبراهيم الطالب
من مظاهر العبث المقززة أن يخطب المجرم القاتل الناهب في ضحاياه من الجرحى والقتلى والمنهوبين؛ يأمرهم بالفضيلة ويحثهم على السلام والتعايش.
هذا حالنا نحن المسلمين مع الغرب المتسلط.
فالغرب له قرابة الثلاثة قرون وهو يقتل فينا وينهب، ويغتصب ويعربد، ولا يزال يحتل أرضنا بقواعده العسكرية، كل يوم تطلع طائراته لتدمر إقليما من أقاليم المسلمين؛ تنشر فيه الدمار والموت، وتفرق الحزن والألم واليتم بين نسائنا وأطفالنا، وفي نفس الوقت تدعونا نخبته السياسية والمثقفة إلى التسامح والتعايش والحوار ونبذ العنف ومحاربة التطرّف والإرهاب، وتتمادى لتفرض علينا تغيير مقررات التعليم وتخضع حكوماتنا الورقية لتقبل بقراءة جديدة للإسلام من جهة، ولتحارب معه الإرهاب والتطرف من جهة أخرى.
الغرب يلعب أكبر مسرحية مرت فوق هذا الكوكب، لا يتوقف عن افتعال الحروب التي يُفني فيها الملايين العديدة بين الحين والحين ثم يسخر منظماته ومثقفيه يدعو من خلالهم الشعوب التي دمرها إلى احترام الحق في الحياة.
يدعو إلى التسامح وهو يشعل نيران الطائفية في كل مكان وينشر مشاعر التعصب ويذكيها حتى يفرق الشعوب ويستحوذ على مقدراتها.
يدعو إلى الديمقراطية وهو يساند الاستبداد ويدير الانقلابات على الرؤساء المنتخبين في كل العالم.
يدعو إلى السلام والمحبة وهو أكبر مصنع لأسلحة الدمار الشامل.
يدعو لتكريم المرأة وهو يستعبدها في المصانع وقطاعات اللذة وسوق الدعارة وتجارة البورنو.
فكيف ينبغي أن يفهم المسلم هذا التناقض الغربي وهذه الازدواجية في الخطاب؟؟
وهل فعلا حضارة الغرب لا تزال قوية رغم هذا الإفلاس الأخلاقي والإجرام الفظيع في حق البشر؟
وهل تنقذ الحربُ على «الإرهاب» الحضارةَ الغربية من السقوط؟؟
لقد استطاعت اللوبيات -المستحوذة في الغرب على دواليب السياسة والمال والإعلام- أن تقنع الإنسان الغربي بأنه تحرر من خلال ديمقراطية موجهة بالمال والإعلام، تعطيه الإحساس أنه هو الذي يختار من يحكمه؛ (ولا مجال للمقارنة هنا بين سياساتهم الديمقراطية وبين ما يسميه أكثر المتحمسين عندنا شروط الإقلاع الديمقراطي).
استطاعت اللوبيات عبر الإعلام والفن والسينما والثقافة أن تحول الإنسان إلى عابد في محراب اللذة يعبد هواه وجسمه ومتعته، أقنعوه أن المتعة الجنسية والمادية هي أكبر شيء يعيش من أجله الإنسان، فانتشر بين الناس الإلحاد وغابت الغائية، وانقطعت الصِّلة بين الأرض والسماء في معتقدات أبنائه، ثم أعلنت نخبته «موت الإله» لتفقد الحضارة الغربية عنصر الحياة فيها.
يعبر عن هذا المعنى (*) الفيلسوف الفرنسي الملحد ميشيل أونفري في كتابه الأخير (2017): «الانحطاط: من المسيح إلى بن لادن، حياة الغرب وموته»” Décadence: De Jésus à Ben Laden, vie et mort de l’occident”.
والذي يتحدث فيه عن تاريخ الحضارة اليهودية المسيحية وحتمية سقوطها وأنها الآن في مرحلة الاحتضار، مع طرح السؤال عمن يمكنه أن يحل مكانها.
قوة النص وغرابته تأتي من كون صاحبه ملحدا متطرفا في إلحاده، غير متهم بمحاباة الدين أو تضخيم دوره في بناء الحضارة يقول هذا الفيلسوف المذكور:
«إن قوة أية حضارة تتحد دائما مع قوة الدين الذي يحمل مشروعيتها. حين يكون الدين في مرحلة صعود، تكون الحضارة في صعود أيضا؛ حين يكون في مرحلة انحدار، فإن الحضارة تسقط؛ حين يموت الدين، تموت الحضارة معه. من حيث إنني ملحد، فهذا أمر لا يسوءني ولا يفرحني :ألاحظ كما يفعل الطبيب مع تقشر الجلد أو الكسر أو الأزمة القلبية أو السرطان. والحضارة اليهودية المسيحية توجد في المرحلة النهائية. إن الإعلان النيتشوي عن موت الإله في أوروبا القرن التاسع عشر يتزامن مع بداية نهاية الحضارة اليهودية المسيحية»(*).
فهل الحضارة اليهودية المسيحية اليوم توجد في مرحلتها النهائية؟
لن أغرق في الجواب على هذا السؤال وعلى من يريد الجواب عليه أن يبحث عن التقارير الرسمية وغير الرسمية التي تتنبأ بزوال الحضارة الغربية وتنذر بتفككها، وتحذر من التزايد الديمغرافي للمسلمين في بلدانه، سواء بالنسبة للمهاجرين أو بالنسبة لأبنائه الذين يفرون من جحيم الإلحاد وتناقضات النصرانية إلى سعادة الإسلام وانسجام عقائده وسماحة أخلاقه.
إن الحضارة الغربية تقود العالم اليوم لمحاربة الإرهاب والتطرف ليس بالفكر والنقاش والإقناع، ولكن بقوة السلاح والردع بالعقوبات، وتنفيذ المخططات المتتالية التي تفسد الشعوب وتدير بها حياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى الدينية، من خلال التواطئ مع حكوماتهم الفاسدة التي يحمونها من السقوط ويدعمونها من أجل استنزاف خيرات الأمم، والحيلولة دون أي انفكاك عن مؤسساتها المالية وبنوكها وصناديقها المسماة زورا دولية، وقراءة عجلى لكتاب نعوم تشوميسكي «ماذا يريد العم صام» كفيلة بأن ترسخ اليقين، أن دول الغرب لا تقود العالم بالعلم والعدل والقيم وما تدعيه من حضارة وإنما بالقتل والانقلابات واستعباد الشعوب.
الأمر ليس قاصرا على أمريكا، بل نفسه بالنسبة لكل الدول الأوربية فما تعانيه إفريقيا اليوم من حروب وتخلف رغم أنها أغنى القارات، هو بسبب استحواذ بلدان الأنوار والديمقراطية وحقوق الإنسان على القرارات السياسية في بلدان القارة السمراء، حيث لا يجلس رئيس على كرسيه إلا بتأشيرة من دول الإمبريالية؛ ثم بعد ذلك تلبس عند كل خطبة في منظمات هيئة «أممها المتحدة» جبة الدعوة إلى السلام، ونشر ثقافة حقوق الإنسان وتنمية الدول الفقيرة وحرب الأمراض فيها، ومحاربة تجارة المخدرات، والتجارة في الأعضاء البشرية، التي لا تزدهر إلا في أجواء الحروب التي تشعلها في ربوع العالم.
ما يمكن التعليق به على كلام «أونفري» هو الإلماح إلى حقيقة يجب أن تكون موضوعا للتباحث وتعميق النقاش، وتتلخص في الهدف الذي يجعل الغرب يحارب الصحوة الإسلامية في دول الإسلام منذ حرب الخليج الأولى؟؟
فإذا كانت حضارة الغرب كما يقول «أونفري» بدأ سقوطها في أوروبا منذ القرن التاسع عشر، فإن القرن التاسع عشر هو القرن الذي شهد تغلغل الجيوش الغربية إلى بلدان الإسلام في حملاتها الإمبريالية التي أسقطت خلالها خلافة المسلمين وقسمت بلدانهم، واستنبتت في دويلاتهم نظما علمانية تتحاكم لقوانيننها العلمانية، كما لم تخرج منها إلا بعد أن سلمت مقاليد الحكم فيها إلى رؤساء اتفقت معهم على استقلالات وهمية توافقية تضمن استمرار مصالحها، ثم جعلت لليهود الصهاينة الإرهابيين دويلة في قلب دول العرب، لتحول دون أي وحدة أو تعاون بينهم، بل تكرس خلافاتهم على الدوام.
فهل كان الغرب حينها يدرك فعلا أن حضارته بدأت في السقوط وأن الخلافة الإسلامية التي كانت تتعافى شيئا فشيئا مع خلافة السلطان الأمجد عبد الحميد الثاني، وإصلاحاته العميقة ستجهز عليها وتكتسحها ولو بعد حين، خصوصا وأن الخلافة كانت تمتلك أغلب حقول النفط والغاز المتواجد في العالم والذي كان حديث الاكتشاف والثورة الصناعية لا زالت في مهدها؟؟
زعماء الغرب منذ أكثر من قرنين تأكد لديهم أن المواجهة المباشرة مع المسلمين لا تجدي نصرا، واستيقنوا أن الإفصاح عن نيتهم الخالصة والتصريح بنصب العداء التام والمباشر، يدفع النائم من المسلمين إلى الاستيقاظ، والغافل إلى الانتباه، والجاهل إلى التعلم، والكسلان إلى العمل، والفاتر إلى الشرة، والمتردد إلى الجزم والحزم، فتكون المقاومة على أشدها فتنهزم جيوشه لقوة العزيمة وصدق اليقين عند المؤمنين.
لهذا فهو هو يتوارى إلى الخلف ويجعل حكوماتنا تنخرط معه في الحرب على الإرهاب والتطرف، لتضرب بيدها النزهاء من أبنائها، وتَقْتل في شعوبها كل ممانعة لسيطرته، وتجهض كل محاولة للانفكاك من هيمنته.
إن الحرب على الإرهاب والتطرف أصبحت تعني الحرب على المشروع الإسلامي، الذي استغرقت الأمة بكل أطيافها قرابة القرن في تأسيسه وبنائه، وكانت تراهن عليه في الانفكاك من قبضة الإمبريالية والهيمنة الغربية على مقدرات بلداننا .
لذا نجزم أن تفكيك المشاريع الإسلامية أصبح عند الغرب هدفا للحيلولة دون سقوط حضارته، والتي لا منافس لها اليوم في العالم سوى المشروع الإسلامي الذي لطالما شكل الأمل في اليقظة والنهضة والوحدة، بين المسلمين الذين يمتلكون كل مقومات القوة لقيادة العالم، وإنما يحول دونها وجود وكلاء الغرب الذين يحرسون مصالح الغرب الاستراتيجية في بلداننا، ولهذا نراهم اليوم يسجنون علماءهم ويحرقون شعوبهم ويدمرون بلدانهم، حتى يستمروا في الحكم ويستمروا في الحراسة.
إن ما يجري اليوم من شيطنةٍ للإسلاميين، وحربٍ على العاملين لعز الإسلام، وخلقٍ لمشاريع متعددة مدعومة بالعسكر والمؤسسات والأموال القذرة تحت ذريعة محاربة الإرهاب والتطرف هي من أجل:
1- إحداث تشكيك كبير في مكتسبات الصحوة الإسلامية.
2- إفقاد الثقة لدى المسلمين في أتباع الحركات الإسلامية وفي رموزهم من علماء ودعاة ومفكرين وإعلاميين.
3- تفكيك المؤسسات الإقليمية والدولية التي بناها الإسلاميون منذ عقود، ويشتغلون من خلالها على ربط الجسور بين الفاعلين في مختلف دول العالم الإسلامي، والتي كانت تنافس المؤسسات الغربية على كل المستويات الإغاثية والعلمية والحقوقية والثقافية والنسائية.
4- خلق مفاهيم جديدة لتفكيك العقيدة الصافية التي استغرق تحريرها من سفسطة الكلاميين وخرافات الصوفية قرنا من الزمن، هذه الخرافات التي هيمنت على العقل الإسلامي قرونا مديدة وكانت من أهم أسباب انهزام المسلمين أمام الغزو الغربي المسلح؛ تدعم اليوم من الغرب وتفرض كبديل للإسلام المصفى.
5- إنجاح محاولة كبرى لتزييف الوعي وإلحاق الهزيمة النفسية بالشعوب الإسلامية، والتي تعتبر الشرط الأساس لحصول انتكاسة أخرى للمسلمين تدوم عقودا مديدة في المستقبل -لا قدر الله-.
لذا، على كل العاملين أن ينتبهوا إلى الفخاخ المنصوبة حتى لا يشاركوا في إنقاذ حضارة غربية إرهابية على وشك السقوط، وإرجاع الأمة إلى سباتها العميق واستسلامها الخانع من جديد.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
——————–
(*) ما بين النجمتين مقتبس من تدوينة لأخينا الدكتور المهندس البشير عصام المراكشي وترجمة النص من الفرنسية له.