هل توضع حكومة العدالة والتنمية في حرج إنهاء مسار التعريب؟
هوية بريس – بلال التليدي
من المحتمل جدا، أن يعرف المغرب قريبا انطلاق جدل آخر على خلفية هوياتية، ترتبط بلغة التدريس، فقد تم إحالة مشروع قانون الإطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي على البرلمان لمناقشته وإقراره، بعد أن اعتمدت الرؤية الاستراتيجية التي صاغها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وطلب الملك من رئيس الحكومة السابق (عبد الإله بنكيران) تحويلها إلى قانون إطار ملزم، يضطلع بمهمة إصلاح جدري للتعليم بالمغرب.
الجدل المحتمل اندلاعه، سيكون هذه المرة على لغة التدريس، بعد أن خرج مشروع القانون الإطار في مادته 31 مخالفا لما تضمنته الرؤية الاستراتيجية في الشق المرتبط بالهندسة اللغوية، إذ جاء في الرافعة 13، المتعلقة بالتمكن من اللغات المدرسة وتنويع لغات التدريس، وبالتحديد في الفقرة 85، أن اللغة العربية هي “لغة التدريس الأساس، ويتم تفعيل مبدأ التناوب اللغوي بالتدرج على أساس تدريس بعض المضامين والمجزوءات باللغة الفرنسية في التعليم الثانوي التأهيلي على المدى القريب، وفي التعليم الإعدادي على المدى المتوسط، وباللغة الإنجليزية في التعليم الثانوي التأهيلي في المدى المتوسط”.
مشروع القانون الإطار رقم 17.51، الذي صادق عليه المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 20 غشت 2018، ينص في مادته 31، على إعمال مبدأ التناوب اللغوي من خلال تدريس بعض المواد ولاسيما العلمية والتقنية منها أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة أجنبية أو لغات أجنبية”.
والواقع أن الخلاف لم يسجل فقط بين صيغة الرؤية الاستراتيجية وبين صيغة مشروع القانون الإطار الذي تم المصادقة عليه في المجلس الوزاري، بل تم تسجيله بين صيغة مشروع القانون الإطار الذي صاغته الحكومة وبين المشروع الذي خرج عن المجلس الوزاري، إذ تغير وضع اللغة العربية كلغة للتدريس من “لغة التدريس الأساس” إلى ” اعتماد اللغة العربية لغة أساسية للتدريس”، كما طال التغيير أيضا لغة التدريس، إذ زال التدرج وغابت الآجال، وتم تجنب الإشارة إلى اللغة الانجليزية، وحلت “المواد” لاسيما العلمية والتقنية محل ” بعض المضامين والمجزوءات في بعض المواد”.
تحليل هذا التحول الدال في التوجهات، يستدعي طرح أسئلة عن المسار الذي قطعه مشروع القانون الإطار، والذي تم صياغته في رئاسة الحكومة بإشراك أعضاء بالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وتمت إحالته على المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي من أجل إبداء الرأي فيه على وجه الاستعجال، وهو ما لم يستجب له المجلس، مخالفا بذلك المقتضيات الدستورية التي تلزمه ببذل الرأي في الآجال الدستورية إذا ارتأت رئاسة الحكومة الصفة الاستعجالية للمشروع، فلم يبد المجلس رأيه إلا بعد مرور أربعة أشهر، أي بعد الانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر 2016.
المتأمل لموقف المجلس الأعلى للتربية والتكوين يتبادر إليه الذهن أن التحول الذي حصل يعزى إليه، لكن بالرجوع إلى رأيه الاستشاري رقم 2/2016 وتدقيقاته على مشروع القانون الإطار، يتبين أنه على العكس مما تضمنه مشروع القانون الإطار الذي خرج عن المجلس الوزاري، أعاد التأكيد على أن اعتماد مبدأ التناوب اللغوي يشمل بعض المضامين أو المجزوءات لاسيما في المواد العلمية والتقنية، وليس المواد بكل مضامينها ومجزوءاتها، كما أعاد التأكيد على قضية التدرج والآجال، وأن الأمر يخص اللغة الفرنسية (الثانوي ثم الإعدادي) والإنجليزية (الثانوي فقط).
في المحصلة، مضمون المادة الواردة في القانون الإطار يمكن تأويله بإمكانية الشروع في التدريس باللغة الأجنبية في المواد العلمية والتقنية توا في كل المستويات، ومن دون مراعاة للتدرج ولا للأجال، كما يمكن تدريس مضامين أو مجزوءات مواد أخرى غير المواد العلمية والتقنية باللغة الأجنبية، التي تعني في الحالة المغربية اللغة الفرنسية بالأساس، أي يمكن تأويل المادة على أساس أنها إعلان حقيقي توقف قطار التعريب، وإنهاء مساره.
صحيح أن خطاب الملك محمد السادس لثورة الملك والشعب الذي ألقاه يوم 20 غشت 2018، تضمن فقرة تدعو إلى “تعزيز إدماج اللغات الأجنبية في كل المستويات لاسيما في تدريس المواد العلمية والتقنية”، لكن، على فرض تأويلها بالنحو الذي جاءت به عبارة مشروع القانون الإطار، فالأمر يمكن أن يحمل على ورود الخطاب ساعات عقب المجلس الوزاري الذي تمت فيه المصادقة على المشروع، مما يفيد بأن الملك لم يفعل أكثر من نقل ما ورد في مشروع القانون الإطار من مقررات مهمة، في حين يمكن تأويل الفقرة بنحو مختلف يطابق ما ورد في الرؤية الاستراتيجية ما دام الحديث عن تعزيز إدماج اللغات الأجنبية في مستويات التعليم من خلال التدريس بها أيضا في المواد العلمية والتقنية، وليس تدريس المواد بصفة حصرية باللغات الأجنبية، ليبقى السؤال مشروعا عن الكيفية التي حصل فيها تغيير مضامين فقرة استراتيجية تخص لغة التدريس، والجهة التي صدر عنها، والخيارات المطروحة للتعاطي تشريعيا معها.
ثمة معضلة في الجواب عن هذا السؤال، فالحكومة بالتأكيد ليست مسؤولة عن إدراج هذا التعديل المخالف لما ورد في الرؤية الاستراتيجية، بدليل أن مشروع القانون الذي أحالته على المجلس الأعلى للتربية والتكوين لم يتضمن ذلك، كما أن النسخة التي تم توزيعها، وأغلب الظن أنها هي التي وجهت للديوان الملكي، لم يثبت فيها هذا التعديل، كما أن استقراء سلوك الملك محمد السادس، في التعامل الدستوري والمؤسسي، يفيد احترامه للمقتضيات الشكلية في الأحوال العادية، فبالأحرى إن كان هو الذي أقر بنفسه الرؤية الاستراتيجية، وطلب من رئاسة الحكومة تحويلها على وجه الاستعجال لقانون إطار ملزم.
لا نملك جوابا نهائيا في الموضوع، لكن مؤكد أن جهة ما ضاقت بها خيارات إزاحة التعريب من تدريس المواد العلمية والتنمية، وانزعجت مما ورد في الرؤية الاستراتيجية من ضرورة احترام مبدأ التدرج وإقرار الآجال، وتحصين المستويات الابتدائية الأساسية من دخول اللغات الأجنبية في تدريس المواد في المدى المتوسط والقريب، فدخلت على الخط.
لاشك أن حكومة العدالة والتنمية ستوضع في حرج شديد، لأنها ستواجه عمليا باتهام تورطها في إقبار مسار التعريب، ولن يكون بإمكانها الدفاع إلا على مشروع القانون الإطار الذي خرج عن المجلس الوزاري، وليس مشروع القانون الإطار الذي أحالته على المجلس الأعلى للتربية والتكوين، ومشروع القانون الإطار الذي وجهته للديوان الملكي بعد أن ضمنته التعديلات الواردة في الرأي الاستشاري للمجلس الأعلى للتربية والتكوين.
الخيار الوحيد المتبقى إليها أن يتحرك فريقها البرلماني في المؤسسة التشريعية لممارسة دوره في إعادة الأمور لنصابها، وتحقيق الملاءمة مع ما اقتضته الرؤية الاستراتيجية، وما أكده الرأي الاستشاري للمجلس الأعلى للتربية والتكوين. فإذا نجح الفريق البرلماني في إقناع حلفائه، وبعض القوى الوطنية المحسوبة على دعم مسار التعريب مثل حزب الاستقلال أو القوى اليسارية ذات النزوع القومي مثل اليسار الموحد، فيمكنه أن ينزع الحبل الذي ستخنق به العدالة والتنمية نفسه، بحكم أن هذا الحزب ظل لمدة طويلة يقدم نفسها باعتباره خادما للغة العربية ومدافعا عن النهوض بها وضرورة حمايتها وتطويرها ومطالبا أكثر من غيره بضرورة بإخراج أكاديمية محمد السادس للنهوض باللغة العربية.