هل كان حفل افتتاح أولمبياد باريس فاشلا؟
هوية بريس – أنس حين
في نظري.. قطعا لا، كان افتتاحا مبهرا قويا وعميقا وعلى مسرح عمليات كبير وواسع، وليس محدودا داخل رقعة ملعب صغيرة، أو استعراضات بسيطة..
كصحفي ومهتم بكيف تحكى القصة، فقد كان الافتتاح من أفضل صيغ حكاية القصة المعقدة، حيث بدأ كعناصر قصة متفرقة، مشاهد مبعثرة، تتطور ثم تتقارب.. حتى تصل لمشهدها الأخير مجتمعة وتقول جملة واحدة..
أما من حيث “الرمز” داخل القصص، فحدث ولا حرج، كل شيء كثيف ومعزز، وكل لون أو مشهد يحمل دلالة، وتشابك الدلالات أنتج لوحة في النهاية ذات رمزية كبيرة..
أما في رسم المشهد، فالدمج بين مواقع التصوير والمشهد المسرحي الخاص به، أنتج لنا معان جديدة، وهذا كله كان كافيا لنقول إن الحفل عبقري، من حيث الجهد المبذول على حبك القصة وحكايتها.. لكن ما الذي يقف خلف كل هذا؟
—
دوما ما كان يصور لنا على أن الرياضة هي فعل تنافسي، ترفيهي، معزول تماما عن التأثيرات العميقة والانقسامية، كانت الدلالات الثقافية لحفلات الافتتاح استعراضا ثقافيا يركز على قيم عالمية مشتركة، أو استعراضا تسويقيا لهوية البلد المضيف..
أما حفل باريس، فهو عمل فلسفي تبشيري بامتياز، إنه صلاة “دينية” لحضارة النيوليبرالية في شقها الثقافي، ومنتجاتها الدينية الجديدة، من عبادة الجسد، وتعزيز الشهوانية كمقصد وغاية للوجود البشري..
الانقضاض على الأديان بعامة، والمسيحية بخاصة، ففرنسا في الافتتاح تسخر من المسيح، وتستبدله وحوارييه، بلوحة جندرية شهوانية، كعنوان لانتصار إله “اللذة” على إله “الألم”.. في نسق ثقافي تبشيري، وكذلك في عرض “انقسامي” يعادي أغلب التوجهات البشرية الحالية لأكثر من ٧ مليار إنسان..
كان حفل باريس حالة “استعلاء” بالإيمان “الإلحادي / النيوليبرالي” على كل أديان العالم، وثقافات الشعوب، في دولة تعاني من صعود اليمين المتطرف وقارة بدأ يأكلها اليمين..
من هنا، لا يمكن وصف هذا العمل العبقري بأوصاف قديمة، كأنه لوحة إنسانية شاملة تجمع البشرية تحت سقف واحد، لم تعد رأسمالية الغرب وليبراليته “حالمة” و “رومانسية” تبشر العالم بالخير والسلام..
إنها في هذه النسخة المقصودة والمحاكة بعناية، تبشرنا بالموت الذي يركب الحصان قادما للعالم، وبالشذوذ، وباحتقار الأديان.. وانتصار كل ما هو منزوٍ وأقلوي وهامشي وشاذ، على كل طبيعة بشرية مستقرة وهادئة وجميلة..
محاولة لفرض الصخب والألوان على مشهد من القبح الحضاري، وتبشير وإعلان لدين جديد على مرأى ومسمع من الجديد.. إنها استعارة جديدة لفلسفة الألعاب الأولمبية الإغريقية، وانتزاعها من قالبها الديني الأول لدى الإغريق، لقالب ديني يعبر عن ديانة الغرب الجديدة بكل وضوح..
هو الحفل نفسه الذي يعبر عن أزمة أخلاقية وسياسية أخرى، حين تستبعد روسيا بسبب خروجها على القانون الدولي، والاحتفاء في ذات الوقت بإسرائيل، تكريما لها على مجازرها، وكأن الغرب يقول.. هذه مراكبنا، من يركب ركبها من كل الأمم ويخضع لآلهتها الجديدة، فأهلا به مهما كان مجرما أو قاتلا..
ومن رفض المبدأ.. فسيكون هو ميدانا للنبذ والتدمير والتهميش.. أينما كان وأيا ما كان!