هل كل مسائل الشرع يجوز نشرها؟
هوية بريس – د. رشيد بنكيران
لا يأذن الشرع في نشر كل مسألة تنسب إليه، فهناك ميزان شرعي يجب مراعاته أثناء نشر العلم ومسائله، فالعلم لا يطلب لذاته، وإنما يطلب للنفع الذي يرجى منه.
وقد صح من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يسأل الله عز وجل العلم النافع كما كان يتعوذ به من العلم غير النافع، وهذا يدل على أن من العلم مسائل غير نافعة، يحتمل أن يكون ضررها شديدا على الناس. وما كان لا نفع فيه أو ضرره محتملا فلا يجوز نشره وإن كان يدخل في مسمى العلم، فمن الفقه السليم حينئذ أن يطوى ولا يروى.
وعليه، فعبارة “قل الحق وامض” ليس صوابا بإطلاق، فإذا كان الغالب في الحق يجب قوله ولا يلتفت إلى صراخ المثبطين للعزائم، فهناك من الحق القليل ما يجب كتمانه ولا يعبأ بحماسة المندفعين. ولكن يبقى السؤال الملح: كيف نفرق بين الحق الذي يجب قوله والحق الذي يجب تأخير قوله؟ و كيف نفرق بين العلم الذي يجب نشره والعلم الذي يجب كتمانه ؟
من العلماء الكبار الذين تعرضوا لهذا الموضوع المهم والخطير أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله، وذكر كلاما بديعا غير مسبوق به فيما اطلعت عليه، بين فيه المراحل العملية التي يجب على كل راغب في نشر العلم أن يسلكها، هذا الكلام يرقى أن يكون تأصيلا علميا ومنهاجا شرعيا وفرقانا لما يجب نشره من العلم أو الحق وما لا يجب، قال رحمه الله:
“وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية” اهـ . الموافقات ج 1 \191.
وللاستفادة أكثر من كلام الشاطبي رحمه الله، أصوغه صياغة تعكس المراحل العملية التي تفضي إلى معرفة الصواب في السؤال أعلاه.
المرحلة الأولى؛ تصفية الأخبار لمعرفة المقبول منها من المردود ومدى صحة نسبتها إلى الشرع:
تتجه هذه المرحلة نحو التحقيق في صحة ما ينشر من العلم، وذلك بعرضه على منهج تصفية الأخبار لمعرفة المقبول منه من المردود. وقد حاز نقاد الأحاديث والنصوص الكعب العالي في هذا الشأن، سواء تعلق الأمر بسند الحديث أو بمتنه، وإليه الإشارة بقول الشاطبي: “تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها”. فإن كانت من المردود فلا يلتفت إليها؛ لأنها لا تصح نسبتها إلى الشريعة، وإن صحت، تأتي المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية؛ النظر في مآل نشر العلم أهو ذو عاقبة محمودة أم مذمومة؟:تتعلق هذه المرحلة بعواقب الأمور، لأن الشارع ما قصد من نشر العلم إلا جلب مصلحة للناس أو دفع مفسدة عنهم. فإذا كان نشره بين الناس يؤول إلى ضد ما أراد الشرع فلا يجوز أن يلتفت إليه، وإن كان صحيحا من جهة نسبته إلى الشريعة، وهذا لا يكون إلا في أحوال مخصوصة تتعلق بالزمان أو المكان أو الأشخاص، وإليه الإشارة من كلام الشاطبي: “فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها..”؛ لأن العلم الذي يؤدي ذكره إلى مفسدة مردود شرعا وعقلا. ولا شك أن هذا الأمر مقيد بوجود الأسباب التي دعت إلى ذلك.
المرحلة الثالثة؛ تلمس موقف عقول الناس من العلم الذي جاز المرحلتين السابقتين:
وتتعلق بعدم إنكار الناس لذلك العلم الذي تحقق فيه شرطان؛ صحة النسبة إلى الشرع، وسلامة المآل؛ لأنه وإن كان كذلك، فقد ترده العقول، ولا يعني هذا أن العقل حاكم على الشرع، بل الشرع هو الحاكم عليه ، وإنما كان رد العقول له بسبب الجهل بصحة نسبته إلى الشريعة، ولهذا قال على رضي الله عنه: “حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ وإليه الإشارة بقوله:”فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها…”. فقبول المسألة هنا هو معرفتها وعدم إنكارها بسبب الجهل بها.
المرحلة الرابعة؛ الفئة المستهدفة بالعلم الذي يراد نشره:
يتحقق المقصود بالفئة المستهدفة بكلام الشارع هل هي عموم الناس أم خواصهم، “فلك أن تتكلم فيها إما على العموم، إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم”، وقد جاءت السنة المتبعة تفرق بين العامة والخاصة في إدراك العلوم ونشرها بينهم”. وقبول العقول للمسألة في المرحلة الثالثة ليس من جنس القبول في المرحلة الرابعة فيما يبدو لي، فالمراد به في المرحلة الثالثة قبول المسألة من جهة نسبتها إلى الشريعة وأنها غير منكرة ولسيت من الغريب، بل هي معروفة، أما في المرحلة الرابعة فالمراد بقبول المسألة هو استيعابها فهما وتنزيلا، وهذا يختلف فيه العوام والخواص من حيث القدرة.
المرحلة الخامسة والأخيرة؛ كتمان العلم إذا كانت العقول لا تستوعبه:
فإذا كانت العقول تعجز أن تستوعب المسألة فهما وتنزيلا، فللعالم أو الداعي إلى الله أو المفكر وكل راغب في نشر العلم أن يسكت عن ذكرها، بل قد يجب عليه ذلك أحيانا بحسب الأحوال، لأن ناشر العلم مبلغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، و”معلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به” فكذلك الناشر للعلم إذا تيقن أو غلب على ظنه أن مسألة ما لا يمكن استيعابها أو يصعب على الناس فهمها، فمن الحكمة أو فقه التنزيل أن يعرض عن ذكرها إلى أن يحين وقتها، وإليه الإشارة من كلام الشاطبي: “وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية”.