هل للمسلم الحرية في الاختيار بين الحلال والحرام وأوامر الشريعة ومنهياتها؟
هوية بريس – د.رشيد بنكيران
يتردد على لسان العلماء؛ فقهاء أو أصوليين: عبارةُ: “وهذا من أفسد الأقيسة”، أو “هذا من القياس الباطل”، وهي عبارة تُطلقعلى قياس لم يستجمع شروط القياس الصحيح.وغالبا يقع ذلك ممن لم يحكم صنعة القياس، واقتحم هذا المقام الكبيروهو ليس أهلا لذلك.
وفي هذه السنوات الأخيرة بدأ ينتشر فهم منحرف، في غاية الانحراف، سيؤدي إلى نتائج خطيرة جدا، سواء على مستوى العقيدة والأفكار، أو السلوك والأخلاق، أو العبادة والمعاملات، اعتمد أصحابه -وهم يتبوؤون مقاعد التنظير لبعض الحركات الإسلامية بالمغرب- على قياس فاسد كاسد:
يقولون: إذا كان الإيمان بالله عز وزجل، هو أعظم أصول الإيمان على الإطلاق، وأصل أركان الإيمان الست، ورغم ذلك أعطى الله للمكلف أو للإنسان حق الاختيار بين الإيمان به من عدمه،إذ لا يجوز إكراهه عليه، ويستدلون بالآية الكريمة (لا إكراه في الدين)، وكذلك بقوله تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)… فإذا كان أصل الإيمان فيه تخيير بين الاستجابة له من عدمه، فمن باب أولى أن يكون المكلف مخيرا في فروع الشريعة، أي في أحكام الحلال والحرام، وأوامر الشريعة ومنهياتها، فله الحق أن يفعلها أو لا يفعلها، بناء على الحق الأول في الاختيار، واستعملوا قياس الأولىليصلوا إلى ما قرروه، وبعبارة مركزة يقولون:
إذا كان الإيمان بالله سبحانه لا يجوز إكراه أي كان عليه، فمن باب أولى أن ينطبق الأمر على ما دون الإيمان من شعائر الدين وشرائعه.
قلت: إذا كان هناك قياس فاسد… فهذا من أفسد الأقيسة، ذلك:
أن قياس أصل على أصل لا يصح كما هو مقرر في علم أصول الفقه، وقد وقع هنا قياس المؤمن على الكافر، أو قياس المسلم على غير المسلم، أي قياس أصل على أصل؛ قياس الإيمان ومقتضياته على الكفر وما يترتب عنه، وهو قياس مع وجود فارق، بل فروق.
فالكافر أو غير المسلم هو الذي له حق الاختيار، ولا يجوز إكراهه لا على الإيمان ولا على شعائر الإسلام وشرائعه من باب أولى، أما من آمن بالله ربا والإسلام دينا ومحمد رسولا ونبيا،باختياره وطوعا دون كراهية،فهذا يجب عليه أن يلتزم بتعاليم الدين، أصوله وفروعه، شعائره وشرائعه، ولا يجوز شرعا أن نقره على مخالفة ذلك ظاهرا أوباطنا.
وخذ مثالا توضيحيا مبسطا قبل أن أسوق بعض الأدلة التفصيلية في بيان فساد هذا القياس.
كما هو معلوم أن الإنسان له حق الاختيار في أن يعمل أو لا يعمل، وله حق الاختيار في نوع العمل الذي يريده، ولكن إذا وقع اختياره على عمل ما فهو ملزم بواجبات ذلك العمل، فلو أنه اختار أن ينتمي إلى مؤسسة التعليم مثلا، فلابد أن يتقيد بقانون تلك المؤسسة، ولا يصح في الأذهان أن يقال: إذا كان يملك حق اختيار الانخراط في العمل -وهو أصل- ويملك حق الانتماء إلى مؤسسة التعليم التي يريد العمل فيها، ولا يجور أن يُكرَه على ذلك، فمن باب أولى أن ينطبق الأمر على ما دونه من فروع ذلك العمل وشروطه.
أي منطق هذا!؟؟ نعم، كان له الحق قبل أن ينخرط في العمل، هل يقبله أو لايقبله، ومن باب أولى شروط ذلك العمل، أما إذا قَبِل العمل وانخرط فيه فإنه يجب عليه طوعا أو كرها أن يلتزم بمقتضيات ذلك العمل، فالمسألة جد ولست لعبا أوهزلا.
من الأدلة التفصيلية لبيان فساد هذا القياس:
شرب الخمر
أجمعت الأمة الإسلامية على أن شرب الخمر حرام، وأن الشرع رتب على من يشربه من المسلمين عقوبة زجرية تسمى حد الخمر، والمسلم إذا ضُبط يشرب الخمريؤاخذ بتلك العقوبة في الدينا، وإن لم يضبط ولم يعاقب في الدنيا فهو على وعيد شديد في الآخرة، بين مشيئة الله؛ إن شاء عذبه اللهبعدله، وإن شاء غفر له برحمته.
ولا يختلف اثنان في أن ترك شرب الخمر من فروع الإيمان، ورغم ذلك آخذه الشرع بمخالفته لذلك، ولا يصح أن يقال شرعا إذا كان المكلف مخيرا في أصل الإيمان فمن باب أولى فهو مخير في شرب الخمر أو تركه لأنه من فروع الإيمان.
ارتكاب الزنا
والشيء نفسه يقال عن ارتكاب الزنا، فتركها من فروع الإيمان، والمسلم ملزم طوعا أو كرها بالابتعاد عن الزنا، وإن ارتكبها يعاقب عليها.
أداء الزكاة
تعد زكاة الأموال الركن الثاني من أركان الإسلام الخمس، وأداؤها من فروع الإيمان بالإجماع، وقد أمر الله المسلمين بها، ورهببالوعيد الشديد لمن امتنع عن أدائها في الآخرة، وفي الدنيا أوْكل الشرعُ مهمة إلزام المسلمين بها للدولة ومعاقبة من تخلف عن أدائها، وقد أجمعت الأمة على ذلك في عهد خلافة أبي بكر الصديق، ويجب على الدولة أخذها من الممتنعين طوعا أو كرها.ولا يقال لا يجوز إكراههم على أداء الزكاة، لأن أداءها من فروع الإيمان، هو مخير في أصله فمن باب أولى له حق التخيير في أدائها، فهذا قياس فاسد كاسد كما سبق توضيحه.
فساد القياس سببه فساد في التعليل
ومن التعليل التي اعتمدوا عليه لترويج هذا القياس الفاسدهو أن الدين لا يكون دينا حقيقة إلا إذا أتاه المرء طوعا وبرضى دون أن يجد أي حرج، ولهذا لا يجوز إكراه الناس على شعائر الدين وشرائعه.
وهذا الكلام في أصله صواب، إلا أنه لم ينزّل في مكانه الذي دلت عليه أدلة بلغت التواتر المعنوي، فالدين أو التدين الحقيقي الذي يقبله الله عز وجل هو ما كان برضى صاحبه، ولكن هذا القبول يتعلق باليوم الآخر يوم الحساب والجزاء، فالمكلف لا ينتفع في الآخرة إلا بما أتاه من عمل صالح وبرضاه غير مكره، ولكن في الدنيا فالأمور تجري وفق ما ضبطه الشرع بأحكام ظاهرة وعقوبات منصوص عليها في حالة المخالفة، وأخرى لم ينص عليها بالتعيين ولكن تخضع للسياسة الشرعية العادلة، وصدق عمر إذ يقول نأخذ الناس بالظاهر والله يتولى السرائر.
ومن هذا التعليل أيضا الذي يرسلونه إرسالا دون خطام له ولا زمام قولهم: إن حمل الناس على شعائر الإسلام وشرائعه كرها دون رضى منهم سينتج لنا أفرادا منافقين، والله عز وجل لا يريد منافقين، بل يريد من يعبده عن إيمان واقتناع.
وهذا الكلام حق من جهة، ولكن ما نوع إرادة الله التي تعلقت بالنفاق هنا؟ إنها الإرادة الشرعية، فالله عز وجل لا يريد منافقين يبطنون الكفر، ولا يريد كذلك كافرين يظهرون الكفر، ولا يريد حتى عاصين فاسقين مع إيمانهم؛{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}،{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}، وفي مقابل ذلك فإن الله يريد مؤمنين شاكرين{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فالمراد بالإرادة هنا الإرادة الشرعية، ومن خصوصيتها أنها قد تقع وقد تتخلف، فالله عز وجل أراد ذلك من خلقه شرعا لا كونا وقدرا، فمرد تلك الإرادة إلى فعل المكلف وعقيدته.
ولهذا، فإن قولهم إن الله لا يريد منافقين والتركيز عليه لوحده لا معنى له بهذا الاعتبار، والجواب عليه هو أن الله أيضا لا يريد لا كافرين ولا فاسقين، فالأمر سواء. بل يمكن أن نجزم وفق الدليل الصحيح أن الله عز وجل أقر المنافق على نفاقه وأمر المسلمين أن يعاملوه معاملة المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم وحسابه على الله، بخلاف الكافر غير المعاهد أو المشرك، فإن الله عز وجل لم يقرهم على الكفر والشرك، وعليه يحمل قوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.
وعودا على بدء، فإن قياس المسلم على الكافر في عدم أحقية إلزامه بشعائر الدين وشرائعه قياس فاسد من أفسد الأقيسة.