هل ينقصنا الأدب؟
هوية بريس – حميد بن خيبش
إحدى مُتع الأدب وعطاياه الحسية هي تهذيب النفس، وتدريبها على تشرب الجمال وتغذية حواسها الفنية. لذا قوبلت جل روائعه وكلاسيكياته بإجلال وتقدير، لأنها أسهمت بشكل أو بآخر في تحول النفسية القلقة والمضطربة للإنسان، وانتزاع الوحش الذي بداخله كي يستطيب العيش داخل جماعته، أو على الأقل يجد مخارج لائقة لتذمره واحتجاجه، وسعيه للأفضل.
منحتنا الأجناس الأدبية وأشكال التعبير المختلفة حضورا مفعما بالجمال الحسي والمعنوي. وجرى تقييدنا لفترة طويلة بخيوط التعبير المتجاوب مع المكان والزمان. لفضاء المدرسة لغته وقاموسه الذي يؤشر على انفتاح الطفل على عالم الراشد، وللمقهى تعبيراته المؤنسة والمتعالية عما يدور في خلوات الصعاليك ومدمني المخدرات. أما المسجد فكان الإمام والخطيب مقيدان بشرف العلم وآدابه حتى في مجالس الترويح عن القلوب.
تلك كانت عطية الأدب وهو يبدع كلماته، مراعيا التأرجح الأخاذ بين تمتيعك بالجمال وحراسة القيم؛ واضحا دون تشويش أو تلفيق في الجمع بين طبيعته الفنية والهم الاجتماعي المباشر. حين يسجل اللقطة البشرية التي اختارها لتعبيره الفني، فإنه يُثني على فترات البطولة والسمو، ويسمي لحظات الهبوط ضعفا وخطيئة. لكن سرعان ما هبت رياح الحداثة الغربية لتقتلع حضوره الآسر، وتلقي بالكاتب والقارئ معا في دوامة من التجريب والتغريب، وتعزيز مرارة العيش بدل التخفف من أحماله بجرعة أمل!
انحرف الأدب عن مضمونه، وعن جماليته بدون شك، منذ عقد السبعينات في بلادنا تحديدا، وذلك بسبب ما يعتبره الأديب المغربي أحمد المديني قوة ضاغطة من لدن إيديولوجيا الطبقة الوسطى على وجدان الأدباء. صار الانتماء إلى الأدب رهينا بمفهوم معين من الواقعية، يُملي على أشكال التعبير الفني مُسبقاته الإيديولوجية، ويُحتم على الكتابة أن تخرج من رحم الطبقة الاجتماعية، لكن على نحو رث وسوقي يتبرأ منه منظّروها غربا وشرقا. سمّها واقعية أو قبحا يتجمل باسم الأدب؛ لأن شغف القارئ بالجمال وهزة الروح في حضرة الكلمات لم يعد ممكنا!
تواترت أعمال فنية يُحمّلك كُتابها شيئا من وزر عذاباتهم ومراراتهم وانسحاقهم، وتشردهم في شوارع البيضاء أو طنجة. أعمال تثور على كل شيء، وتهدم كل شيء في الممر المؤدي إلى عالمها الأفضل. تتردد فيها القيم والأفعال النبيلة على استحياء، كأنها في معرض اتهام يوجب عليها التبرؤ، والانحياز لما يشد الإنسان إلى قاع المجتمع وحضيضه.
لكن ما ذنب قارئ ينشُد الجمال والخير والحب، ويبحث عن مبررات لائقة لوجوده وحركته واختياراته؟
في الحديث عن أزمة القراءة ببلادنا، والذي يتردد في الندوات والموائد المستديرة على هامش المعارض، قلما يُكشف النقاب عن الوجه الآخر للأزمة؛ أعني خلل العوامل الذاتية المرتبطة باستعلاء الكاتب، ومنطق اشتغاله الذي يستبعد التواصل مع محيطه القارئ، واكتفائه بترويج قناعاته واتجاهاته، في غياب إنصات مرهف لحاجيات القارئ وتطلعاته.
وضع كهذا من البديهي أن يُلحق الركود بالمشهد الإبداعي، زيادة على حيثيات النشر والتسويق ومشاكلهما، وأن يثير هوامش تنظيمية ومؤسساتية ليعلو غبارها فوق جمالية الأدب والإبداع عموما، لعل آخرها ضجة سحب جائزة المغرب للكتاب من الفائزين، بسبب الشطط في تأويل مادة قانونية.
توهم النظرة السطحية برواج كبير في سوق الأدب، حيث تدفع دور النشر سنويا بآلاف العناوين إلى الأسواق، ويرتحل الناشرون من معرض دولي إلى آخر لتعزيز الحضور والإشعاع، وتزدان قوائم المسابقات بأسماء جديدة، تُنافس في سماء الإبداع وتحصد الجوائز. بالمقابل يرتفع منسوب التذمر والشكوى من عزوف القارئ عن الطلب الذي يتناسب مع العرض.
كيف نقنع قارئ الأدب عموما، والمغربي على وجه التحديد، بأن اللغط الذي يثار كل سنة حول دعم الكتاب من لدن الجهات الوصية، غايته وصل ما انقطع بين الأدب والجمال، وبين مكابدة العيش ومتعة التحليق في عوالم الخيال الفني؟
هل يصدّق أن ديوان الشعر أو المجموعة القصصية التي بين يديه هي منتج لا مادي وجمالي، ينحاز إلى مقولة هدسون:” الأدب تعبير عن الحياة وسيلته اللغة”، أم سيجاري الوقائع التي يكشفها الإعلام عن هاجس اقتصادي يحكم العملية برمتها؟
يقول الروائي السوري حنا مينة: ” لا أكتب لأسلّي الناس أو أجعلهم يقتلون الوقت، إنما لأجعلهم يحصلون على التجربة بسهولة، على المعرفة، وأيضا على المتعة كي يخرجوا من كل رواية وفي أذهانهم أسئلة، وأفكار، ومشاعر.”
لذا نؤمن بأن أجمل ما فينا لم يكتب بعد، وبأن الأدب لن يتنازل عن إنسانيته رغم كل الإغراءات والإكراهات. صحيح أن قابلية الأديب للانضغاط واردة في شتى الأحوال، لكن لمسة الجمال لن تفارق أشكال التعبير الإنساني.
ونؤمن بأن المدرسة ستبادر، إن عاجلا أو آجلا إلى استعادة وضعها الطبيعي، باعتبارها رافدا من روافد التنشئة على الجمال والفن، وتحرير الإنسان من نوازع الوحش الذي بداخله.
ونؤمن بأن الأدب الجميل مهما انكمش تحت وطأة صناعة عالمية للتسلية والترفيه، لابد أن يستعيد منبره في المشهد الإعلامي، ويمنح الشعر الرائق، والقصة المؤثرة، واللوحة الكاشفة المعبرة صدارة الترتيب.
ونؤمن بأن البذاءة والإيحاءات الجنسية، والعنف الرمزي الذي يكتنف حدائقنا وشوارعنا، وفضاءات تجوالنا اليومي، وحتى مقراتنا الحزبية والنقابية التي كانت أشبه بسوق عكاظ في الزمن القريب، سيخف تحت وطأة جمال يخطه قلم أديب، أو ترسمه ريشة فنان.
نؤمن لأننا ضقنا ذرعا بحاضر مفعم بقلة الأدب!