هِمم على قِمم

16 سبتمبر 2024 15:59

هوية بريس – حميد بن خيبش

في سنة 1891 استقبل سلطان المغرب المولى الحسن الأول فتى بالكاد يبلغ الثالثة عشرة من عمره، باعتباره أصغر طالب يمثل النبوغ المغربي في الحفظ. وأما سبب هذا الاستقبال فيرجع إلى النداء الذي وجهه السلطان لجميع الطلبة المغاربة في أنحاء المملكة، ممن يحفظون مختصر الشيخ خليل، للالتحاق بدار المخزن (القصر الملكي) بمراكش قصد الاختبار.

ارتدى الفتى، وكان اسمه أبو شعيب الدكالي، لباسا رسميا. وقطع المسافة من دكالة إلى مراكش سيرا على الأقدام رفقة صديقين له. وعند الوصول تقدم للامتحان تحت إشراف الوزير السيد علي المسفيوي، وفاز في الحفظ على الجميع بتفوق.

سأله الوزير: أنت حافظ للمختصر، فهل تحفظ القرآن؟

أجاب أبو شعيب: نعم، وبالقراءات السبع!

بعد اختباره في القراءات من لدن مختصين شرّفه السلطان بالاستقبال، وأهداه حُلتين من اللباس الرفيع، وأمر بإلحاقه بنظام الحزب بالقرويين، وبمرتب شهري قدره ثلاثون ريالا حسنيا. وكان توقيع السلطان على هذه الصلة بالعبارة الآتية: ” يُضاعف لأبي شعيب لصغر سنه وكِبر فنه”.

وضمن شهادة في حق الراحل الأستاذ محمد المنوني، الباحث المتضلع في تاريخ المغرب وحضارته، يحكي الأستاذ امحمد بن عبود كيف حُرم المنوني من متابعة دراسته الجامعية بكلية الآداب بالرباط، لأن العميد اعتبر الشهادة التي حصل عليها من جامعة القرويين دون مستوى الإجازة التي تمنحها جامعة محمد الخامس. وكان الأستاذ المنوني قد نجح بتفوق في الامتحان الكتابي للسلك الثالث، ولكن أحد المشرفين على هذا البرنامج طلب منه أن يتغيب عن الامتحان الكتابي، لأنه تلقى أوامر من العميد ليرسب خريجي القرويين.

غير أن الواقعة التي آلمته لم تُثن عزمه عن متابعة مسيرته في البحث العلمي، وإعطاء دروس للسلك الثالث بتلك الكلية وغيرها. وكرس حياته لتحقيق هدفين أساسيين: المساهمة في التعريف بالمادة المغربية الغنية، وفهرستها وتوظيفها. وثانيهما تكوين جيل جديد من المؤرخين المغاربة كلبنة أولى لتأسيس مدرسة تاريخي وطنية.

تشهد مؤلفات الأستاذ محمد المنوني بإحاطته المتفردة بالمخطوطات المغربية في شتى فروع الثقافة الإسلامية، وغنى رصيده في مجال البحث التاريخي بفضل إشرافه على فهرسة عدد من مكتبات المغرب، كالخزانة العامة بالرباط، والمكتبة الحسنية، والمكتبة الملكية بمراكش.

ولأنه كان المتفوق الأول في امتحان التخرج للإجازة من علوم الشريعة، فقد عُهد إليه بإلقاء الدرس الجامعي الذي حضره السلطان محمد بن يوسف، تكريما لأول فوج يتخرج من جامعة القرويين بعد نظام الإصلاح لسنة 1930.

تابع السلطان الدرس كما حضر وقائع الحوار الذي دار مع اللجنة العلمية، وحصل بموجبه هذا الشاب على نقطة 20على20. ولأن العادة جرت بأن يوقع الشهادة الجامعية كل من رئيس الجامعة ووزير العدل، فإن السلطان قرر هذه المرة مجازاة الشاب المتفوق بأن يوقع الشهادة بنفسه، وكتب عليها بخط يده الشريفة هذه الكلمات:” الحمد لله.. سلمنا هذه الشهادة بيدنا الشريفة لصاحبها السيد عبد الهادي بوطالب مجازاة له على اجتهاده وتفوقه. واعتناء منا بالعلم الشريف”.

بعد توقيف الدروس التي كان يقدمها في جامع القرويين من طرف الحاكم العسكري الفرنسي، استدعي الأستاذ عبد الهادي بوطالب إلى القصر الملكي بالرباط، وجرت تسميته أستاذا بالمعهد المولوي سنة 1943. وظل لسنوات يتساءل عن سبب اختياره رغم أن في نخبة المجتمع من هم أكبر منه علما وخبرة، إلى أن أفضى له الملك الراحل الحسن الثاني بالسبب قائلا: ” لقد جاء المستشار المخزني الفرنسي عند السلطان، وأخبره أن سلطة الحماية قررت اعتقالك لأنك رفضت التوقف عن إلقاء الدروس الثورية في جامعة القرويين، وأنهم يخشون أن تثير هذه الدروس فتنة في مدينة فاس. فسألهم السلطان: ” من هذا الذي تتحدثون عنه؟”، فتذكرك وقال لهم:” لا تقبضوا عليه. سأكفيكم إياه وسآخذه إلى جانبي ولن يشوش عليكم منذ الآن”.

تلك كانت بداية علاقة مع القصر الملكي امتدت على مدى نصف قرن، ترك خلالها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بصمات واضحة في الفعل السياسي المغربي، سواء من خلال نضاله ضد الاحتلال الفرنسي، أو عبر تقلبه في المسؤوليات الوزارية، حيث تحفظ له الذاكرة السياسية مواقف وطنية حازمة داخل المغرب أو خارجه، منها دفاعه عن التعددية السياسية أمام هيمنة الحزب الواحد، ونهوضه بالوساطة بين المغرب وسوريا، إلى جانب توسطه في ملف الأسرى بين العراق والكويت.

يحتفظ سجل المملكة التاريخي والحضاري بمئات النماذج التي عبّرت عن النبوغ المغربي في شتى صوره وتجلياته. مئات العزائم وتجليات الإرادة الإنسانية التي تكافح لأجل العطاء والإبداع، غير مترددة أمام العقبات، وأشكال التواطؤ والضعف والهزيمة. نفوس ارتأت أن من واجبها إضاءة شمعة بدل الاكتفاء بلعن الظلام.

لمثل هذه النماذج ينصرف العقل والقلب حين نعاين انكماشا هائلا في مساحة الاقتداء، وحيرة الآباء والفاعلين التربويين كلما أثيرت مسألة القدوة التي ينبغي أن يتطلع إليها الجيل الناشئ، ويحقق التوازن المطلوب بين الانتساب إلى عالم جديد دون أن يفقد جذوره.

يحتاج الطفل إلى القدوة ليتشرب المبادئ ويسير على نهجها. وبدون قدوة فإن أثر التربية كمجهود فردي أو حتى مؤسسي، يظل محدودا وسريع التلف أمام ماكينة العولمة التي تطحن كل شيء: القيم، والمبادئ، والمواقف، وأنماط السلوك والفعل. من هذا المنطلق يحرص القائمون على شؤون التربية والثقافة في كل بلد على تطعيم المناهج بالنماذج “الصالحة” التي تضبط مؤشرات الهوية والقيم، وتُمجّد الانتماء والعطاء، وتحفز على الإبداع.

غير أن المشاهدة اليومية لما تضج به وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي تكشف عن هوة خطيرة في هذا الجانب، حيث جرى استبدال النماذج والمثل العليا بكائنات هي أقرب إلى المنتج الدعائي منها إلى القدوة أو المثل الأعلى. مشاهير من عالم الرياضة والفن يتم تسويقهم في المناهج والبرامج ومختلف الفعاليات باعتبارهم قدوة للجيل الناشئ، وبدائل تحمل مسميات التقدم، والحداثة، ومواكبة العصر، بينما هم في الحقيقة جزء من آلة دعائية ضخمة لا همّ لها سوى تحقيق الربح والسيطرة والتلاعب بالعقول.

داخل معترك الاستلاب والذوبان في هوية الآخر وقيمه، تنتصب رغبة واعية للحفاظ على ثوابتنا وانتمائنا، وتعزيز حضورنا كأمة لها امتداد وتطلعات. وضع كهذا يستلزم إحياء القدوة التي تُعبّر عن مكوناتنا الثقافية، وتتجاوب بشكل أو بآخر مع خصوصيات السياق الاجتماعي وإكراهاته:

قدوة تحدد للجيل الناشئ خطة الوصول، وتروّض فكره على الخلق والابتكار..

وقدوة تُمده بالحركية اللازمة لكسر قوالب الجمود والتقليد..

وقدوة تلهمه المزج بين الفضائل، وبين معطيات واقعه وبيئته، لتنسجم تطلعاته مع وعي مستنير بحقيقة حاضره.

قل لي من هو قدوتك، أقل لك من أنت!

فالأمر لا يتعلق باختيار تربوي أو فكري من بين اختيارات متعددة، وإنما بسعي مصيري إلى البقاء أو السقوط المدوي في هوة حضارية عميقة!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M