وأخيرا… انكشفت عورة “الحداثوية”
هوية بريس – محمد زاوي
لم يكن ليخطر ببالي، وأنا أساهم في إعداد ملف العدد الأخير (العدد 295) من جريدة “السبيل”، أن “الحداثوية” ستنحط إلى أن تتهم هذا العدد بالتحريض على العنف. لم يكن ليخطر ذلك ببالي، وأنا أعود:
– إلى كتاب “صحيح البخاري: نهاية أسطورة” لرشيد أيلال، لأقرأه صفحة صفحة، مدونا ما بدا لي من ملاحظات على بعض ما ورد في كتابه، معتمدا في ذلك ما بحوزتي من بضاعة “صنعة المحدثين”.
– وإلى كتاب “مخطوطات القرآن” لمحمد المسيح، ثم إلى كتاب ثيودور نولدكه “تاريخ القرآن”، لأقرأهما معا، فأردَّ الأول إلى الثاني، والثاني إلى الرأسمال. وكل ذلك بغرض إثبات: قدم إشكالية المسيح، وأصالتها عند المستشرقين، وخدمتها لمصالح الإمبريالية الجديدة.
– وإلى كتاب “دليل التدين العاقل” لسعيد نشيد، لأطلع على القواعد التي يقترحها ل”تدينه العاقل”، فأنتقدَها باعتماد “التاريخانية” و”النقد الإيديولوجي” (الكشف عمّا تحت الإيديولوجيا من بنيات تحتية مفسِّرة).
– وإلى موقف أحمد عصيد من عقوبة الإعدام، وإلى الحجج التي يبني عليها موقفه، حتى يتسنى لي استيعابها وتمحيصها ونقدها بما يجهله (أو يتجاهله) عصيد: تبني العِلمية في تحديد مسؤولية المجرم من عدمها، مناقشة الفرد في إطار المجتمع والدولة (لا خارجهما)، اعتبار شرطنا التاريخي الخاص في كل نقاش (بما في ذلك مناقشة الأحكام الشرعية والقوانين).
كانت هذه هي خلاصة المجهود الذي قمت به، قراءة وتلخيصا ونقدا عليما، فما كان مِن “الحداثوية” إلا أن واجهتنا بالآتي:
– التأويل المغرض للصفحة الأولى مِن عدد الجريدة (295)، حيث من المعتاد أنْ تتعدّد العناوين والصور والرموز الدالة على العناصر الأساسية للعدد: عنوان مقال الافتتاحية، عنوان الملف، بعض عناوين مقالات وحوارات الملف، صور المثقفين الأربعة –المحسوبين على تيار “الحداثوية”-الذين تم نقدهم باحترام وأمانة في الملف، صور دالة ومعبرة عن الخط التحريري للجريدة… إلخ.
– عدم تكبّد عناء قراءة محتوى الملف، وما ورد فيه من نقد تاريخي وإيديولوجي موجّه لبعض أطروحات الأربعة المذكورين أعلاه. ويا للعجب! يتأولون في الصورة تأولا مغرضا، ويتجاهلون المحتوى الذي لم يكن كعادة “النقد التقليداني” هذه المرة. لقد كان نقدا مسائلا للأطاريح في عمقها، وداحضا لإشكاليات زائفة بأخرى تاريخية، وكاشفا عن الرجعية تحت أنقاض هائلة من “ادعاء التقدمية”… إلخ. فلعلهم لم يقرؤوا تلك النقدات الموجهة إليهم، أو لعلهم قرأوها فتجاهلوها وفروا منها إلى التأول في الصور.
– مواجهة الفكر بالتحريض، والنقد بدغدغة مشاعر “المثالية والإنسانوية والإرادوية واللاأدرية والعدمية”، وكلها إيديولوجيا تحمل عداء لنوعين من التفكير: تفكير ديني يحمي الخصوصية، وتفكير تاريخي ينطلق من أن “التقدميةَ بنتٌ للتاريخ”. لقد خاطبوا قابلية أصحاب تلك الإيديولوجيات للفوبيا من “كل رغبة في الاستقلال التاريخي”، فانطلقوا جميعا كالنائحات على فقدان الأحلام الجميلة. وقد قلناها منذ البداية: “مشكل الحداثوية في لا تاريخيتها”، ولذلك فهي تعيش على الطوبى، تحسبها تقدمية، وهي عين “الرجعية والإيديولوجيا السلبية” إذا انطلت على مردّدها.
ختاما أقول:
إن نقدنا لم يكن (ولن يكون) من باب التداعي، ولا هو بغرض التحريض أو الإقصاء، ولا هو بالنقد “التقليداني” الذي يعود إلى الماضي وقد رمى في عينيه الرّماد الذي يحجب رؤية الحاضر والمستقبل… إلخ.
إنه مشروع كتاب جلسنا له قبل سنة، وقد عنوناه بعنوان “دعاة التبعية في مغرب القرن الحادي والعشرين”. وما مقالات ملف العدد الأخير، من جريدة “السبيل”، إلا غيض من فيض هذا المشروع الذي عكفنا فيه على كتبِ التالية أسماؤهم:
– أحمد عصيد/ في نقد “مثالية تحديد المفاهيم وتفسير الواقع والتاريخ”.
– محمد المسيح/ في نقد “الدراسة الاستشراقية للقرآن”.
– عبد الصمد الديالمي/ في نقد “الثورة الجنسية”.
– رشيد أيلال/ في نقد زيف إشكالية “كيف السبيل إلى تنقية صحيح البخاري؟”.
– سعيد ناشيد/ في نقد “المداخل غير العلمية والمخرجات التفكيكية”.
– عبد الإله بلقزيز/ في نقد “تحريف الماركسية”.
– عبد الله حمودي/ في نقد “النزعة الأنثروبولوجية حيث الحاجة إلى التاريخانية”.
أضف إلى ذلك:
– مقالات وحوارات ومداخلات محمد عبد الوهاب رفيقي/ في نقد “تأويل النص الديني خارج الشرط التاريخي”.
– أفلام هشام العسري/ في نقد “سينما اللامعنى”.
– مواقف أحمد الدغيرني/ في نقد “المزّوغية”.
… إلخ.
أهكذا تستقبلون بالأحضان من انتقدكم باحترام وأمانة؟
أهكذا تستقبلون من كشف عن منهجه التفسيري ووسائله النقدية في الردّ عليكم؟
استقبلوا أو لا تستقبلوا.
فنحن نعدكم أن مشروعنا النقدي سيستمر، فلا تبكوا ولا تتباكوا. فالنقد، هذه المرّة، يأتيكم عِلما وفكرا يثبت للناس أن بضاعتكم مزجاة، ليس في “صنعة الفقهاء” وحدها، ولكن في “أبجديات التنوير وبناء المواقف التقدمية” أيضا.
لن يردّ عليكم، هذه المرة، ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب وأبو شعيب الدكالي وبلعربي العلوي وعلال الفاسي وتقي الدين الهلالي وعصام المراكشي… إلخ. وإنما سيرد عليكم: أبيقور وسقراط وأرسطو وديكارت وسبينوزا وكانط وهيجل وماركس ولوكاتش… وغيرهم كثير.
فاستعدوا للنقد.