(وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت)

هوية بريس – إدريس الكنبوري
(وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت).
هذه آية نقشت في القرآن لتبقى إلى آخر الزمان. كان وأد البنات شائعا بين الناس في الجاهلية يمارسه البعض تطيرا من الأنثى، ووثق الله سبحانه هذه الجريمة في كتابه تقرأها الأجيال منذ خمسة عشر قرنا، وتلعن أصحابها. واليوم هذه الجريمة قديمة جدا لكنها موثقة في القرآن لأنها قديمة لكن الحساب عليها سيكون جديدا، بينما اللعنة على أصحابها تتجدد عند كل قراءة.
اليوم يموت بنات وأطفال فلسطين جوعا أمام عيون المسلمين كافة، كبيرهم وصغيرهم، عظيمهم وحقيرهم، حاكمهم ومحكومهم، غنيهم وفقيرهم، ظالمهم ومظلومهم، يوأدون بسبب الجوع وهم أحياء كما كانت توأد البنات في الجاهلية وهن حيات، فهل تسأل الموءودة قتلا غدا ولا تسأل الموءدوة جوعا؟
إننا نعيش أغرب زمن في الحياة الدنيا منذ خلق الله البشر. هو أغرب زمن لأن المسلمين ينظرون بالعين المجردة إلى القتل والموت جوعا وإلى الظلم والقهر ولا يتحركون. إن ما يجري في فلسطين كشف الجانب الشرير من النفس البشرية، بما فيها النفس المسلمة، ذلك الجانب الحيواني الذي يجعل الإنسان حيوانا يمر على الجيفة ويواصل مسيره، وقد يتوقف لأكلها كما يأكل البعض اليوم لحم الفلسطينيين، يأكلونه طعنا في شرف المقاوومة أو تقربا إلى إصرائيل وأمريكا طمعا في وجبة سياسية لن تصل إلى حلقومه أبدا. لو كانت إسرائيل وأمريكا تسديان معروفا لدولة عربية لأطعمتا الجائعين في فلسطين، فمن لا يطعم طفلا جائعا كيف يطعم دولة؟
لقد كشف ما يجري في فلسطين حقيقة هذه الأمة الموزعة إلى دول، فقد كشفت أن المسلمين يحبون الدنيا ويكرهون الآخرة، وأن الانتساب إلى الإسلام ليس انتسابا عن يقين وثقة في الخالق، بل انتساب مهزوز سرعان ما يختفي عندما تصطدم العقيدة بالمصلحة، إذ لو كان انتسابا حقيقيا لنهض المسلمون عن يقين بأنهم منتصرون، ولكنهم يعرفون أن نهوضهم لن يفيد لأنه خال من العزم واليقين. لقد أراد الله أن يضرب لنا مثلا بالشعب الفلسطيني، وأن يذكرنا بأن طلب الآخرة مرهون باحتقار الدنيا، لأن الفلسطيني لا يملك دنيا يحرص عليها، ولأنه يعيش كمسافر أو عابر سبيل، قد يبني بيتا جديدا هدمه الاحتلال فيهدمه الاحتلال، وقد يفقد القريب والعزيز، وقد يفقد حياته، وقد يُخرج من بيته أو بلدته، فسبب صبره وجهاده يقينه بأنه لا يملك شيئا أو سريع الفقد لما يملك، بينما يحرص الآخرون على ما يملكون لأنهم لم يجربوا الفقدان، ولأنهم طال عليهم الأمد في الملكية والكسب حتى حسبوا أن ما عندهم لا ينفذ.
إن منظر أم تعانق جثمان ابنها ذي السبعة أشهر مات بين يديها جوعا، أو منظر أب يحتضن فلذة كبده الذي مات من الجوع، لهما منظران قاسيان جدا على النفس. كل منا لديه عاطفة تجاه أبنائه، ولكن أن يرى المسلم مسلما تنفجر عاطفته على فلذة كبده ولا يفعل شيئا لهي عقوبة إلهية، عقوبة قسوة القلوب، فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
لقد كشفت غزة أن المسلمين تعرضوا للخداع طويلا، خداع من الحكام الذين كانوا يدعون الدفاع عن الإسلام، وخداع من العلماء الذين كانوا يطلقون ألسنتهم في فقه النفاس ونواقض الوضوء، وخداع الدعاة الذين كانوا يتطاولون في الكلام بينما هم يتطاولون في البنيان، وخداع المثقفين الذين كانوا ينمقون الكلام كما تفعل بنات الليل.
لقد لوث الغرب والعرب نفوسنا تلويثا عجيبا، ومنذ أن بدأنا نسمع في العقدين الأخيرين الكلام النابي في العلماء والدعاة الذين دفعوا حياتهم ثمنا لمواقفهم كنا ندرك أن هذا الزمن قادم لا محالة، وها قد جاء. فبعد أن بتنا نسمع مثلا عن سيد قطب بأنه إرهابي كان لا بد أن يأتي الوقت ليصبح المجاهد الفلسطيني إرهابيا، وها هو قد أتى.
كل ما هو نقي هبط إلى القاع، وكل ما هو خبيث صعد إلى الأعلى، ولكن الزبد يذهب جفاء ويبقى صفاء الماء.



