والشعراء يتعبهم الغاوون، هذه كانت بداية الآيات الأخيرة من سورة “الشعراء”، والتي سميت بها، وهي آيات حافلة بالمعاني، تتحدث عن طبقة وصنف من الناس تمكنوا من أدوات الكلام العربي واستعملوه في خطابات مختلفة الأشكال والأنواع، وكان الخطاب السياسي أحد المضامين الشعرية الثقيلة عند شيوخ القبائل ورؤساء المعادن، ووقفة مع هذه الآيات تكشف بدقة عالية خصائص هذا النوع من الخطاب وحقيقته ومقاصده وجهاته المستهدفة.
عرف الشعراء بقدرات كبيرة على تحسين القبيح وتقبيح الحسن، والوعد بما لا يمكن الوفاء به، وإيهام استحالة ما يمكن الوفاء به، مستعملين أدوات بلاغية دقيقة تستطيع الوصول بمحمولات الخطاب الخبيث إلى أعماق الوعي دون استئذان للجهة المخاطَبة، وهي نفسها أدوات الخطاب السياسي.
كان “السوفسطائيون” طبقة مثقفة يونانية اشتهرت بالقدرة على الإيهام والتشكيك والتلاعب بالمفاهيم والحقائق، وبغض النظر عن محلهم في الفكر العقلي الإغريقي فقد كان هؤلاء أساتذة بامتياز لمجموعات لها سلطات على العقل الاجتماعي والفكري، فيعلم الباحثون أن تلامذة هؤلاء كانوا غالبا محاميين وسياسيين، وكانت حججهم الخطابية والشعرية أكثر أنواع الخطابات المستعملة.
شعراء البارحة -سياسيو اليوم- من البلاغة “La Rhétorique” إلى شروط نجاح الخطبة السياسية مرورا بأسئلة مثل: …لماذا يكذب القادة السياسيون؟ وكيف يكذبون؟ وهما سؤالان يحيلان على عمق نظام الخطاب السياسي، فتحت الموضوع عجائب وغرائب.
لماذا يكذب القادة؟ Why Leaders Lie، عنوان كتاب ألفه جون جي ميرشيمر وترجمه إلى العربية غانم النجار، يحكي فيه صاحبه حقيقة الكذب في السياسة الدولية، خصوصا الأمريكية بالأدلة ..أتباع “أفلاطون” صاحب نظرية “الأكاذيب السياسية النبيلة”! والتي نسج على طريقتها إسحاق شامير بقوله: “يجوز الكذب من أجل أرض إسرائيل”.
وقل مثل ذلك في السياسية العلمانية الوطنية، وقد استمتعت بقراءة الكتاب، وتعرضت لمفاجآت، وانكشف لي كثير من خبايا “الكذب السياسي” عند “صناع القرار”، وتعرفت على أنواع الكذب السياسي السبعة… وكنت أستعرض أمثلته الأمريكية، ولا أجد أية صعوبة في استبدالها بأمثلة وطنية وغيرها، فاستبدال “جون” بـ”حديدان” لا يزيد مضمون الممثل له إلا قوة، وكان هذا يدل على أن “الكذب السياسي” قيمة كونية!
هكذا هم الشعراء يتبعهم الغاوون والمغفلون، تراهم في كل واد يهيمون، وبالمخاطبين يتلاعبون، يقولون ما لا يفعلون، هكذا هم السياسيون، ولا يوازيهم إلا سحرة فراعنة عصر التنوير والتزوير، من مهرجي ومشعوذي الإعلام المكتوب والمرئي، فلا يقبل “الصباح” وإلا وكذبة أو أكثر.. ويتبعه “المساء” بمثله فيما يشبه “أذكار “الصباح” و”المساء” عند المؤمنين.
في السياسيين طائفة من العقلاء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا، يريدون الإصلاح ما استطاعوا، لا يعرف الناس أقدارهم إلا بعد انصرافهم عن سياسة مصالحهم، فإذا بخطاب الكذب السياسي بعدهم يصبغ المشهد بألوان تسحر الأعين وتسترهب القلوب.
قريبا قال الشيخ الألباني: “من السياسة -أي سياسة الذين آمنوا وعلموا الصالحات وذكروا الله كثيرا- ترك السياسة، أي سياسة الشعراء الغاوين، لكن المدافعة واردة في الولايات العامة، وتولي خزائن الأرض لمصلحة البلاد بشرط القوة والأمانة مستحسن، وليست هذه المدافعة إلا امتدادا طبيعيا وشرعيا لطبيعة العلاقة بين آل الشيطان ودعاة الإصلاح، فلا تثريب على الذين ينتصرون من بعدما ظلموا”.
على أهل الإيمان أن يكفوا عن وضع أيديهم في جحور لا يعرفون ساكنيها بعدما لدغوا لدغا أسكت أصواتهم، فلا يلدغ المغربي المسلم من جحر مرتين، وعليهم الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وبفضلاء الأمة وصادقيها، لقطع الطريق على كل ذي أنياب، ولكشف كل من لا يرى في “الظلمة” إلا بالأنوار الكاشفة، فإن شرط نجاح الكذب، بل حملات الكذب الاستراتيجية استسلام الضحية لسكين التصديق…
فلا يزال مستعمر البارحة يكذب، ومعه أذنابه وخدامه، وإلا فما الذي يعنيه أن تقر الحكومة الفرنسية القومية سنة 2005 قانونا يلزم مقررات التاريخ في الطور الثانوي بإبراز الجوانب الإيجابية للاستعماري الفرنسي، وهل مثل هؤلاء لا يبدون استعدادا للاعتذار للجزائريين وغيرهم… وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون… وإياك أعني فاسمعي يا جارة.