{وتلك الأيّامُ نُداوِلُها بينَ الناس}

هوية بريس – إبراهيم سهيل
{وتلك الأيّامُ نُداوِلُها بينَ الناس}.. سُنّةٌ ماضيةٌ لا تتخلّف، تُخرِج المرءَ من ضيق اللحظة إلى سَعة الحكمة، ومن غُرور القوة إلى خشوع العارفين. هي الأيامُ التي تمتحن معدن الروح كما يمتحن الحدّادُ الحديد بالنار؛ فإن صبرَت الروحُ وصدقَت زادت قوّةً على قوّتها، وإن ضعفتْ تهاوتْ كما يتهاوى الخَبَثُ حين يُطرقُ على السندان.
إنك إذا نظرتَ في تقلّب الدنيا رأيتَها مثل موجٍ لا يسكن، يرفع أقوامًا حتى ليخُيل إليهم أن الأرض لا تتّسع لخطواتهم، ثم يخفضهم حتى يعرفوا أن الإنسان مهما علا فهو مُقامٌ على ضعفٍ لا يُغنيه إلا فضل الله. وما تزال الأيامُ في دَورانها تُقرّب العقول من ربّها، وتُنبّه النائمين إلى أن النصر لا يُمنَح عفوًا، وأن البلاء ليس غضبًا محضًا، بل بابًا لِفَهمٍ جديدٍ وفتحٍ كريم.
وقد جرّب الناس منذ خُلِقوا أن الشدائد تقذف في القلب من الأنوار ما لا تقذفه الرخاء، وأن العسرَ -وإن اشتدَّ- يهتف من وراء جُدرانه: “إلى الله مرجعُ الأمر كلّه” فمَن عرف هذا سكنتْ نفسه وإن اضطربت الدنيا، واستقام قلبه وإن مالت الأرض تحت قدميه؛ لأنه يرى في تقلّب الأحوال رسالةً لا تُكتب بالحبر، بل تُكتب في الأعماق، تُربّيه تربيةً لا يُدركها إلا من غاص في سرّ القضاء والقدر.
وتلك الأيامُ حين تتداولها النفوس الحرة لا تزيدها إلا بصيرةً، فترى يد الله تعمل في الخفاء، وتقرأ في طيّات المنح ما خفي في ثنايا المحن، وتعلم أن العمر لا يُقاس بطوله بل بومضات الفهم التي تُشرق فيه. فإذا انقضى البلاءُ أو دارَ دورته، خرج الإنسان منه أكثر صدقًا مع نفسه، أعمق نظرًا إلى العالم، وأشدّ تعلقًا بالحق الذي لا يتغير.
فامضِ في أيامك -كيفما دارت- وأنت تعلم أنها مدرسةُ الله في الأرض، وأن كل تقليبٍ فيها ليس عبثًا، بل سَوقٌ إلى مقامٍ أعلى مما كنتَ عليه، لتصير يومًا ممّن يقول إذا نظر خلفه: الحمد لله الذي علّمني بمدارس الأيام ما لم أكن أعلم.



