وثيقة إيديولوجية ضد الفطرة والعرف والشرع والدستور وخارج السياق والتاريخ
هوية بريس – د.الحسن الباز
التزام وواجب بطعم الإشفاق
كثيرا ما عبرنا في أكثر من مناسبة عن التقدير الذي نكنه لبعض مكونات الاتجاه اليساري بالمغرب لأسباب منها:
1-الشرعية التاريخية لهذا الاتجاه، خاصة في مكوناته المحترمة للثوابت الوطنية والانتماء الحضاري للأمة المغربية.
2- الصفحات النضالية التي سجلتها الرموز الأولى لهذا الاتجاه، سواء في مقاومة الاستعمار الفرنسي، أو في الحركة السياسية الوطنية من أجل الاستقلال وبناء المغرب الحديث.
3-المكتسبات التي سجلها لفائدة المغاربة في معترك الحقوق والحريات المشروعة، التي يتمتع بثمارها حاليا أبناء المغرب المعاصر.
4-مواقف الشجاعة والتضحية التي سجلها الرواد الأوائل لهذا الاتجاه في مواجهة الاستبداد والفساد، واستغلال النفوذ، والتعسف في استعمال السلطة.
5-نشأتنا في أسر كانت لها علاقات مباشرة مع بعض الأقطاب الأوائل، خاصة في مرحلة الدراسة بجامعة ابن يوسف. حيث تحفل مذكرات المرحوم الوالد محمد بن الباز ( انظر ترجمته في معلمة المغرب 3/989-990)، بأسماء أعلام من الطلبة الذي كانت لهم مشاركات في أحداث المقاومة والعمل الوطني، من أمثال محمد بن سعيد أيت إيدر، ومحمد البصري، وبوشعيب البيضاوي، وبوشعيب الدكالي، وعمر البيضاوي، وأضرابهم.
6-قراءتنا الواعية للتقدير المتبادل الذي كان بين والدنا وقيادات وفعاليات يسارية تأكدت في تمثيل هيئات لحضور تعزيته وتأبينه بعد وفاته سنة 1994، وكان من تلاميذه من كان عضوا في المكتب السياسي لأحد أكبر أحزاب اليسار، ومنهم من كان من رواد العمل الثقافي في الحركة الأمازيغية التي نشأت أيضا غير بعيد من الاحتضان اليساري في بدايتها وتطورها. كما كان من زملائه الأربعة المؤسسين لجمعية علماء سوس، بعد نفي محمد الخامس سنة 1953 أحد القيادات التاريخية لليسار المعتدل، وهو المرحوم عمر المتوكل الساحلي، المعروف بتسجيل مواقف في النزاهة الفطرية، وعدم التملق والمداراة والانبطاح.
7-معاصرتنا لمراحل من أمجاد تاريخ اليسار بالمغرب من خلال العضوية في الوداديات بالثانوي، منتصف سنوات السبعين من القرن الماضي، وتتبعنا للصحافة اليسارية منذ ما يقرب من نصف قرن، ومجايلة الحركات النضالية الطلابية، المعتدلة منها والمتطرفة، من خلال نشاط ومنشورات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، خاصة في أعرق جامعة مغربية عرفت بقوة هذه الحركات، ووصولها أحيانا إلى درجة استعمال مظاهر العنف والاصطدام ، وهي جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس.
8-دراستنا في المرحلة الثانوية على أساتذة حرصوا على بث الوعي السياسي وهم التغيير، ممن عرفوا بنشاط نقابي أدى بهم أحيانا إلى الحرمان من حقوقهم وحرياتهم، من أمثال الأستاذ علي زكي وأضرابه.
9-دراستنا في المرحلة الجامعية (1976-1980)، (1983-1984) على أساتذة بثوا في الطلبة المنهج المادي الجدلي والماركسي في تفسير التاريخ، باعتباره الإيديولوجية البديلة إذ ذاك لمواجهة التحكم الليبرالي الامبريالي، من أمثال محمود إسماعيل وفؤاد الماوي، وبعد ذلك حسن حنفي الذي لا يمثل فكرا يساريا محضا، وإن أدرجه البعض في اليسار الإسلامي، باعتبار تركيزه على استمداد مناهج التغيير الفكري والاجتماعي من التراث الإسلامي، خاصة العقدي والأصولي. وأنا أفضل أن أسميه:
( فكرا غربيا يتقن لغة التراث، لتطبيقه مقولة فيورباخ في علاقة الخطاب اللاهوتي بالأنتربولوجي، وتفسير علم الكلام الإسلامي بناء عل هذا المنهج.)
لقد سقت هذه المقدمات – والحيز لا يسمح بمزيد من تفصيلها – لأتحدث عن الانطباع الذي أثاره في نفسي البلاغ الذي صدر قبل ساعات من هذه اللحظة (5.20 قبيل فجر الجمعة 16/2/2024، وهو موعد الشروع في كتابة هذا المقال). وذلك عقب اللقاء التشاوري والتنسيقي حول موضوع “من أجل إصلاح جذري وشامل لمدونة الأسرة”، في إطار مبادرة التنسيق بين حزبين يساريين عتيدين في تاريخ المغرب المعاصر، بمقر أحدهما بالرباط يوم أمس الخميس 15/2/2024.
ولا أخفي أنه عندما اطلعت على الإعلان عن هذا اللقاء عزمت على حضوره رغم أني مقيم بعيدا عن العاصمة بأزيد من 600 كلم، ورغم أني أعلم أن اللقاء ستصل عنه تغطيات إعلامية وتقارير صحفية، وقد ينقل مباشرة بإحدى التقنيات الحديثة في التواصل المباشر، ورغم ذلك فقد عزمت على حضوره، وبعثت من أجل ذلك إلى بعض الزملاء من المهتمين- وبعضهم من تلاميذي- لأني تصورت في ذهني أن الحضور في الملتقى سيكون في حجم تلك الملتقيات والمحاضرات التي عهدناها في الجامعة، قبل بؤس المشهد الثقافي في المغرب الجديد، ولكن لما صادفت تغطيته الإعلامية في قناة وطنية مساء أمس، رأيت أنه كان على شكل مائدة مستديرة بحضور محدود معظمه من ممثلات الحركات النسائية.
وأول ما أستهل به الملحوظات والانطباعات عن البلاغ الصادر عقب هذا اللقاء التشاوري التنسيقي:
1- أن ما ورد فيه من بعض المواقف والتوصيات المضادة للفطرة والقانون الطبيعي والسوابق التاريخية، والسياق الفكري والاجتماعي لتطور المغرب المعاصر، فضلا عن الجرأة على ثوابت الأحكام القطعية الثابتة في الشريعة الإسلامية، وما استقر في أعراف المغاربة، وما سطر في الدستور الوطني المحدد لهوية الأمة المغربية، واختيارها الديني وانتمائها الحضاري، وهويتها الوطنية، يعكس نوعا من الخلل والمجازفة والتعسف، مما لا ينبغي أن يقع فيه اتجاه فكري وسياسي له رصيده التاريخي المحترم، ومنجزاته المحلية والوطنية المعتبرة.
2- كان من المنتظر أن تظهر في التوصيات أصداء أعمال أمثال الأستاذ ادريس حمادي أستاذ التعليم العالي سابقا لأصول الفقه بكلية آداب جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، الذي كان حاضرا باستمرار في مراحل سابقة من الحوار حول قضايا المرأة والأسرة من خلال صحافة الاتحاد الاشتراكي- على ما أتتذكر- لالتزامه السياسي في هذا الحزب على ما يبدو، وبعض مؤلفاته، مثل آفاق تحرير المرأة في الشريعة الإسلامية، ( ط 2، دار أبي رقراق، الرباط، 2003. ) والمرجعية القضائية بين النصوص والأعراف الجارية في أحكام الأسرة ( قبل صدور مدونة الأحوال الشخصية )، ضمن إصلاح قانون الأسرة، حصيلة خمسين سنة من النقاش، دراسات وتحاليل، ندوة بالدار البيضاء، أكتوبر 2001، مجلة مقدمات، عدد خاص، رقم 3، ص 42-70. والمذهب المالكي وآلياته في إصلاح مدونة الأحوال الشخصية، مقدمات،ع 4، ص8-32.
ومن مقالاته: المقاصد الشرعية في بناء الأسرة والمجتمع، جريدة الاتحاد الاشتراكي أعداد: 6508-6509-6510، بتاريخ 5-6-7 يونيو 2001.
3- في الإطار نفسه؛ كان من الممكن أن تظهر في التوصيات أصداء وآثار أعمال باحثين
وقضاة ومفكرين وقانونيين تجلى في أعمالهم تفهم المرجعية الحداثية في مشاريع تعديل
قانون الأسرة، وقدموا أفكارا ومقترحات كان بالإمكان استثمارها في مشروع الاتجاه المذكور، من أمثال: الأستاذ محمد الهبطي المواهبي، الذي كتب: ما مدى إمكانية التأويل التي يوفرها المذهب المالكي لإصلاح حقيقي لقانون الأسرة بالمغرب؟ في العدد الخاص، رقم 4، من مجلة مقدمات، 2002، ص 33-52. وأيضا: ما جاء في الخطة ليس فيه ما هو راجع للثوابت الصارفة عن النظر فيه، مقدمات، ع خاص، رقم 2، 2002، ص 243-248. والمرحوم عبد السلام حادوش ( قاض سابق في محكمة النقض،)، في كتابه إدماج المرأة في التنمية في محك السياسة الشرعية، ط 1، الطوبريس، طنجة، 2001. والدكتور أحمد الخمليشي في مراجعاته من خلال سلسلة وجهة نظر، وكتابه من مدونة الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة، دار نشر المعرفة، الرباط، 2012.
4-كان على معدي الوثيقة أن يقدموا ردودا علمية على الدراسات العلمية التي درست مطالب الحركات النسائية، والتي اعتمدها بعض رواد الفكر الحداثي في قضايا المرأة والأسرة، مثل الباحث المعروف في الجنس والمجتمع، الدكتور عبد الصمد الديالمي، الذي رجع في دراسة له بعنوان: في الاتصال بين الشريعة الإسلامية والشريعة الدولية في عدم التمييز بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات، ضمن مجلة مقدمات، ع الخاص 4، إمكانات التأويل من أجل إصلاح جوهري لقانون الأسرة، ص 68-88، حيث ذكر ضمن مراجعه دكتوراه المرحوم محمد بشيري، وإن لم يحل عليها في أي إحالة، وأخطأ في ضبط عنوانها، حيث سماها: حقوق المرأة بين الشريعة والفقه وبين حقوق الانسان. وعنوانها المضبوط، هو:
“مناقشات المطالب النسائية الهادفة إلى تغيير مدونة الأحوال الشخصية.” دكتوراه في القانون الخاص، كلية الحقوق، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، 1994-1995.
ومن هذه الأبحاث أيضا: رسالة الدكتور عبد الرحمن العمراني عن الاجتهاد الفقهي المعاصر في أحكام الأسرة، مركز جمعة الماجد، 2009. ورسالة الوزيرة جميلة مصلي عن الحركة النسائية في المغرب المعاصر، اتجاهات وقضايا، ط 1، مركز الجزيرة للدراسات، 2013.
وممن تصدى أيضا لمناقشة مطالب الحركات النسائية ورجع إلى البحوث المتعلقة بها، مثل : أعمال الباحثة فاطمة المرنيسي، أستاذنا المرحوم الدكتور مولاي عبد الكبير العلوي المدغري وزير الأوقاف السابق، وعضو لجنة تعديل مدونة الأحوال الشخصية سنة 1993، في كتابه: المرأة بين أحكام الفقه والدعوة إلى التغيير، مطبعة فضالة، المحمدية، 1999. وقد ناقش آراء المرنيسي في كتابها؛ الحريم السياسي، وكذا الأستاذة هند التعارجي، في كتابها ” محجبات الإسلام”، ( م س 23-25). وقد رجع إلى مراجع فرنسية وعربية ليقوم بجرد مطالب الحركات النسائية ودراستها، والجواب عليها. ومن هذه المظان:
– مجلة Femmes du Maroc ، عدد خاص رقم 28؛ ” مدونة الأحوال الشخصية أربع سنوات بعد التعديل”.
-ومقالات في جريدة: La vie Economique، لكل من: ليلى بنياسين، وأمين بنعبيد، وزكية داود، وعزيزة بلواس، وجرار لاني. وجريدة La gazette du Maroc ، ومقالات في جرائد: الراية، والاتحاد الاشتراكي، والعلم، ومغرب اليوم، والنشرة “Le journal”، وغيرها.( انظر م س ، ص 122، وما بعدها ).
4-إن ظاهرة الردة السياسية التي لا تكاد تنفك عن كثير من اتجاهات المشاركة السياسية حتى في تاريخنا القديم، لا ينبغي أن تصل إلى فقدان الذاكرة، وتجاوز فكر بعض الرموز المؤسسين من الرواد الأوائل والأقطاب المنظرين. فعلى سبيل المثال من المعروف أن المرحوم محمد الحبيب الفرقاني، نظرا لتكوينه العلمي الشرعي الأصيل باعتباره من خريجي الجامعة اليوسفية بمراكش، وانحداره من أسرة أب فقيه، وكونه من مؤسسي حزب الاتحاد الاشتراكي سنة 1959، وأحد رموزه القيادية التاريخية، ( انظر عبد الرزاق السنوسي معنى، مسارات مائة شخصية فاعلة في تاريخ المغرب من القرن 19 إلى القرن 21، مطبعة ، LIMORIYA، ص112-111 )، كان يمثل باستمرار نوعا من التوافق بين طموح الأفكار اليسارية، واحترام ثبات القيم الدينية والوطنية. فلماذا يغيب عن القيادات اليسارية الجديدة جهود مثل هذا الرجل، وسيكون عرض موقفه من خطة إدماج المرأة في التنمية موضوع الحلقة القادمة بحول الله.
وأشير في ختام هذه الحلقة الأولى أني لا أقصد بالمقال الدخول في جدالات فكرية ومزايدات لسنية أو تموقعات سياسية، غير داخلة في اهتماماتي وحساباتي المقصدية. وإنما أؤدي هنا واجبا علميا وأخلاقيا تفرضه علي مؤهلاتي التي أنعمت بها علي الأقدار الإلاهية، ويعتبر الصمت في مقابلها كفرانا بهذه النعم، وخيانة لأمانة تحملناها من جيل شيوخنا وأساتذتنا في العلوم الشرعية بجامعة القرويين ودار الحديث الحسنية، وأتيح لنا أن نفهم المرجعيات المخالفة من خلال دراساتنا أيضا عن منظرين ومفكرين وباحثين ومهنيين في تخصصات أخرى خاصة منها الدراسات التاريخية والعلوم الانسانية في كليات الآداب، والعلوم القانونية في كليات الحقوق. وما تم استثماره من خلال الخبرة البيداغوجية وتأطير البحث الجامعي لمدة تقرب من أربعة عقود في ثلاث جامعات داخل المغرب وخارجه. ومن شأن أداء هذا الواجب أن يسهم في تنشيط وتفعيل المشاورات الوطنية حول تعديل مدونة الأسرة، وما سيلي ذلك من آفاق الحوار في إطار التدافع بين المرجعيتين الدينية والوضعية في اختياراتنا الوطنية، على مستوى التوجيه والتعليم، والثقافة والإعلام، ومستوى التشريع والتقنين والتدبير.
وبالمناسبة أيضا أهيب بكثير من تلاميذي الطلبة ممن يوجدون الآن في مواقع التوجيه والتدريس والتدبير الديني والبحث العلمي- إذ منهم أساتذة جامعيون في الحقوق والشريعة والدراسات الإسلامية ورؤساء وأعضاء مجالس علمية، ومرشدون، وفاعلون جهويون ومحليون في إدارة تدبير الشأن الديني، وعدول موثقون داخل المغرب وخارجه، وأساتذة في مختلف أسلاك التعليم- أن لا يتولوا ولا يتخاذلوا عن أداء الأمانة، التي تحملوها بواسطة مربيهم وأساتذتهم، في البيان وإسداء النصح والتوجيه وإبداء الرأي والاستشارة وتنزيل فقه الشريعة التي جاءت رحمة للعالمين. فلكل هذا اختارتهم الأقدار الإلاهية أن يتلقوا ما تلقوا، وأن يتحملوا من المسؤوليات ما حملوا.
وفي المستوى نفسه أذكر الطالبات التي تخصصن في العلوم الشرعية، وأتتذكر أنهن يعددن بالآلاف، أن لا يغبن عن التدافع الوطني حول قضايا المرأة والأسرة والطفولة، وأن لا يقعن في ما ذكرته باحثة في جامعة أمريكية، هي زكية سليم، نشرت دراسة عن المرأة بين الدين والدولة في المغرب، نصف قرن من التفاعلات، ترجمة الصديق رداد، ( ط 1، دار أبي رقراق، الرباط، 2023.) عندما أوردت قول إحدى القياديات في حركة إسلامية وازنة: ” على مدى أربع سنوات كنت أقول وأردد بأن النساء ليس لديهن مشاكل مع الإسلام، وأقول الآن: حقا لدينا مشاكل، أعني، لدينا مشاكل مع سرقة الرجال للدين منا.” والله هو الموفق والمعين.