وثيقة الأمن القومي الأمريكي وتحولات السياسة الخارجية الأمريكية

وثيقة الأمن القومي الأمريكي وتحولات السياسة الخارجية الأمريكية
هوية بريس – بلال التليدي
نشر البيت الأبيض الأسبوع الماضي وثيقة استراتيجية للأمن القومي الأمريكي، تضّمنت مبادئ السياسة الخارجية الأمريكية، وخصائصها ورهاناتها، ووجه اختلافها مع ما كانت عليه في العقود السابقة، حيث ركّزت على الأهداف الواقعية القابلة للتحقيق، والوسائل الممكنة، وعلى ضرورة خلق التناسب بينهما.
وعلى غير المعتاد، خصصت الوثيقة حيّزاً مهما لنقد السياسة الخارجية الأمريكية قبل دونالد ترامب، ومظاهر فشل حصيلتها، وكيف كانت تحمل أهدافاً حالمة لا تمتلك الوسائل لتحقيقها. وإذا كان هذا النقد في جوهره يتعلق برهانات الداخل السياسي الأمريكي، فإنه وُضع كبديل عن الحجج المفتقدة لإثبات مفردات السياسة الجديدة، فـ”الشعبوية السياسية” تجعل من فشل سياسات السابقين، حجة كبرى لطرح عناوين سياسة جديدة، لم تبرر دواعيها.
ومهما يكن الهدف من تصدير الوثيقة بهذا النقد المفتقد للّياقة، فإن المهم في الوثيقة مبادئ سياسة واشنطن ووسائلها وأهدافها وتحولاتها والآفاق التي تريد ارتيادها.
نلاحظ على مستوى المبادئ ثلاثة عناصر أساسية، أولها، أن هناك حديثاً عن دعم السيادة والعمل على تجاوز التحديات التي تهددها، وثانيها، رغبة واشنطن في استتباب الأمن وإنهاء الحروب وعدد من النزاعات الدولية، وثالثها، أن واشنطن تهتم فقط بتأمين مصالحها الاستراتيجية، وأنها لن تنخرط في أي مشروع للضغط على الدول في ملف الديمقراطية أو حقوق الإنسان.
على مستوى الوسائل، تؤكد الوثيقة بأن واشنطن تنتهج في عهد دونالد ترامب سياسة دعم السلام عبر الضغط بالقوة، وتفعيل الشراكة مع الحلفاء الاستراتيجيين في المنطقة، والعمل على إنهاء النزاعات التي قد تصل أضرارها إلى أطراف المصالح الأمريكية، والاشتغال لمنع القوى الدولية والإقليمية الخصيمة من السيطرة على مواقع القوة في العالم.
ثمة تحول واضح في عناوين السياسة الخارجية الأمريكية على مستوى المناطق، فإذا كان الثبات يبصم تركيزها على المحيط الهندي، وحرصها على تأمين التجارة العالمية في المعابر البحرية الدولية، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يعيد مرة أخرى تجريب سياسته التي بدأها في ولايته الأولى، بمحاولة تخفيض الصراع مع روسيا، والصين، والضغط على أوربا من أجل تغيير عقيدتها في التعامل مع روسيا، وخلق بيئة سلام واستقرار في القارة الأوربية تمنع الحرب من الإضرار بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية، وتضع أوربا في ساحة المعافاة والكفاية الذاتية على المستوى الاقتصادي والأمني والعسكري.
صحيح، أن الوثيقة تراهن على ضرورة تأمين هذا المعسكر الغربي والمحافظة لواشنطن على مركز الريادة فيه، لكنها في المقابل، لا تخفي وجود خلاف جوهري مع حلفاء واشنطن الأوربيين الذين تتهمهم بتبني سياسة غير واقعية في التعاطي مع حاجات روسيا الأمنية، وتعتبر أن نتائجها ستكون مكلفة للأوربيين ومضرة أيضا لأمريكا.
يفيد التصريح بهذا الخلاف، بأن واشنطن ستستمر في الضغط على أوربا في المدى القريب بكل الوسائل، حتى تجبرها على الانخراط في رؤيتها في التعاطي مع مسألة الحرب الروسية على أوكرانيا، في الوقت الذي تعتبر فيه القوى المؤثرة في الاتحاد الأوربي، بأن واشنطن تريد أن تحقق أهدافها الاستراتيجية بوضع أوربا تحت عجلات الحافلة من أجل تأمين الوصول إلى الثورات الأوكرانية ومعادنها الثمينة، وتصييرها أداة بيدها في القضايا الأمنية والاستراتيجية.
وثيقة البيت الأبيض، تتحدث عن بروز مؤشرين يبرران نقل منطقة الشرق الأوسط من دائرة الثقل الاستراتيجي، يتعلقان معاً بتقلص التهديدات الأمنية في المنطقة، الأول، يخص أمن إسرائيل، بعد تكبد إيران ومحاورها في المنطقة لخسارة استراتيجية بعد السابع من أكتوبر 2023، لاسيما بعد توجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني، وسقوط نظام بشار الأسد الحليف لطهران، وتلقّي حزب الله لضربة قوية. والثاني، يخص تنوع مصادر ومناطق استخلاص الطاقة في العالم، وتقلُّص الرهان على منطقة الخليج بهذا الخصوص.
تتحدث الوثيقة عن تحول مفصلي في مفردات السياسة الأمريكية اتجاه إفريقيا، والقطع مع سياسة الاكتفاء ببث الأفكار الليبرالية، والتحول إلى منطق الشراكات الاستراتيجية، والولوج إلى مصادر الطاقة والمعادن الثمينة، ولذلك بات من الواضح أن واشنطن تتجه نحو إبرام شراكات مع دول منتقاة في القارة، لبناء علاقات تجارية متبادلة، والانتقال من براديغم المساعدات الخارجية إلى براديغم تنمية الاستثمارات، وضمان الولوج إلى المواد الطبيعية الوفيرة والإمكانات الاقتصادية الكامنة.
تعدد الوثيقة بعض وسائل إنجاز التحول في هذا البراديغم، وتذكر من ذلك تشجيع المفاوضات لإنهاء النزاعات في السودان أو رواندا مثلاً، والعمل على منع نزاعات جديدة (أثيوبيا-إريتيريا الصومال)، والبقاء دائماً في حالة حذر من تنامي التهديد الإرهابي في مناطق من إفريقيا وتجنب أي وجود أو التزام أمريكي طويل الأمد بالقارة.
ثمة نقطة جديرة بالملاحظة، فالوثيقة، لم تذكر قضية نزاع الصحراء ولا التوتر بين المغرب والجزائر، مع أنها ذكرت أكثر من نموذج للنزاع تسعى لتسويته في القارة السمراء.
ثمة أربعة اعتبارات تبرر ذلك، أولها، أن هذه القضية أضحت اليوم مؤطّرة بقرار مجلس الأمن 2797، وبدور فعال للدبلوماسية الأمريكية يقوده مسعد بولس مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للشؤون الإفريقية، في حين، لم تؤطر الصراعات الأخرى لحد الآن، بأي إطار للتسوية. والثاني، أن الوثيقة تحدثت بوضوح عن انتقاء دول ذات سيادة لشراكات استراتيجية في القارة الإفريقية، والواضح من خلال تحولات السياسة الأمريكية، أن المغرب، ليس مجرد مرشح من ضمن الدول المنتقاة، بل هو شريك استراتيجي ارتفعت مرتبته لدرجة حليف استراتيجي، والثالث، أن مصالح أمريكا في القارة السمراء، تواجهها تعقيدات أمنية خاصة في دول الساحل جنوب الصحراء، وتعقيدات استراتيجية تتعلق بالنفوذ الروسي في المنطقة، وتعقيدات اقتصادية تتعلق بالنفوذ الصيني، والمغرب، إلى حد الآن، خلافاً لفرنسا، نجح في أن يقيم سياسة متوازنة في المنطقة، فحاول إدماج دول الساحل جنوب الصحراء(مبادرة الواجهة الأطلسية التي تم الترحيب بها من قبل دول الساحل جنوب الصحراء)، وأبقى على حجم معتبر من العلاقات مع روسيا دون الاحتكاك مع مصالحها الاستراتيجية، وهو فوق هذا وذاك، يتمتع بأدوار اقتصادية وتجارية وأمنية ودينية في المنطقة. والرابع، أن واشنطن تعتقد أن مفتاح نجاح سياستها الجديدة، يعتمد على مصالحة مغربية جزائرية، تؤمّن مشاركة دولتين ذات سياسة، تتوفران على شرط الاقتدار العسكري، وتأمين الحدود، في تحقيق رؤيتها الأمنية والاستراتيجية في دول الساحل جنوب الصحراء.
تقديري، أن سياسة واشنطن الجديدة في القارة الإفريقية، وإن لم تذكر المغرب ولا نزاع الصحراء بالاسم، فإن مفرداتها تؤكد على ذلك، ليس فقط لأن سياسة واشنطن تجعل إنهاء النزاع في القارة مفتاح رؤيتها الجديدة لتوسيع مصالحها الاستراتيجية في إفريقيا، ولكن أيضا، لأنها تعتبر أن الشراكة مع بعض الدول الحليفة المنتقاة، هو أداتها لتحقيق مصالحها الاستراتيجية مع القارة، وليس ثمة أدنى شك أن الرباط، تتمتع بوضع “فوق عادي” في علاقتها مع واشنطن، وأن شراكتها مع واشنطن بدأت بشكل فعلي وواعد، قبل أن يتم تسطير مفردات هذه الوثيقة، والظاهر، أن عدم ذكر نزاع الصحراء، يفسّر بكونه الأقل مقارنة مع النزاعات الأخرى، ولكونه في ملك اليد، بعد صدور قرار مجلس الأمن 2797، الذي وضع الأساس لحله بشكل نهائي تحت السيادة المغربية.



