وخضت مع الخائضين في الدعوة إلى تجديد الدين
محمد بوقنطار – هوية بريس
لا تزال دعاوي تجديد الدين، وضجيج مطالب إعادة هيكلته تستلفت أنظار الناس كافة، تصرفهموتجرهم جرا وراء المجدّدينات للوقوف والاصطفاف إلى جانبهذا الأمل، أملهم المحموم.
والإسلام في نظر هؤلاء المجدّدينات-كما سماهم الأديب الإسلامي نجيب الكيلاني- لم يعد يفهم طبيعة المستجدات، ولا صار مستطيعا تقدير واحتواء شؤون الأحوال المتغيّرة حوله بتغيّر الزمان والمكان والإنسان، منطلقين في رؤياهم المتوجسة خيفة بكون الاعتبار والسمو والأولوية إنما يجب أن تبقى وتكون لما يخدم الانسان وكونية تحركه ومطلق حريته، حتى صارت المصلحة المتوهمة المرجوحة وثنا يعبد من دون الله، بل صارت هذه المصلحة المتوهمة المرجوحة فزاعة وثغرة مخوفا يتسلل منها إلى محراب الوحي واللغة كل عابث مترف يتأبط حقده ليتصرف في مراد الله ورسوله بالزيادة أو النقصان، والتحريف أو الروغان، قصده إلقاء المسلمين طوعا أو كرها في طوفان رذائل مدنية الغرب المتوحشة، وهذا الإلقاء هو أس المعركة وأساسها.
ذلك أن مدنية الرجل الأبيض في وجدان هؤلاء وعميق مشاعرهم هي رمز لكل نجاح وتفوق وتطور، ولذلك فهم يعتقدون برسوخ ويقين أن الدين والتدين به لا يكون صحيحا مقبولا إلا إذا سلم من معارضة هذا التطور، أو بالأحرى إذا جانب وتجنب التصدي لعولمة البلع والابتلاع التي يخوضها الغرب المتطور تحت طائلة الدفاع عن الحقوق الكونية للإنسان ذكرا كان أو أنثى أو خنثى، سويا أو مجرما، كافرا ملحدا أو موحدا مؤمنا، ومن ثم الكف القاتل عن مدافعة ومقاومة ما يعتقده الرجل الأبيض ومن صار في ركبه من الأذناب المحلية مناف ومجاف للروح العصرية الخادشة والأنفاس الحداثية الطائشة…
ولربما، بل أكيد كان المسلم الملتزم بعرى دينه، الغيور المدافع عن حياض هويته، هو أكثر الناس انشغالا بقضية تجديد الدين، وتصديره إلى الواجهة كمنهج حياة يسود ويحكم ويربي ويعلم ويكبح ويُفْهِم، على أن ثمة ما يذكر هنا ذلك أن التجديد هنا محل الحرص والرعاية ليس هو إلصاق ما ليس من الدين به، وإنما هو إعادة وإحياء ونصرة للسنة وتخديل للبدعة ونخل للشوائب والمحدثات، فهو إذاً استشراف تحكم رؤيته وتتحكم في مأموله النوايا الصادقة والرغبات العطشى المخلصة التي يبقى همّها الأول والأخير تنقية التركة الشرعية وتبرئة ذمتها العقدية والفقهية والسلوكية من كل الدخيل استوطن محراب الأصيل.
ولا شك أن هذا لا يكون ولا يتسنى إلا بفشوِّ العلم وسيادة المعرفة، وتحرر حركة العلماء الربانيين تحت ظل سلطان ولاة الأمور الصالحين الراشدين الديّنين، حيث يكون التجديد يرفل في بياض وسخونة بؤرة الموقد الأول، بل تعاد ولادته واستهلاله بحركة ومجاهدة في دائرة يغشاها نور الوحي ويقتحم ظلمة جاهليتها العائدة المعاندة في بدء متكرر الأطوار وهج سراجه الوقّاد.
وذلك ولا ريب هو التجلي الصحيح الصريح لوعد النبوة الصادق المصدوق: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”، وهو أيضا التمثل الصحيح الصريح الذي تنحني له الهامات والنواصي في تسليم لا خيَّرة معه ولا استدراك على يقينية الحفظ الذي وسم به الله الذكرالمحلى بالتعريف في إشارة لاستيعاب الحفظ عطفا لسنة نبيّه عليه الصلاة والسلام عند قوله جل في علاه:”إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”.
ولا جرم أن هذا الحفظ كما شمل وعده الحرف المتواتر المقدس، فقد استوعب وامتد ليحمي المعنى من كل لبس وتطاول مشين، ولذلك فالصحابة في رفعهم لواء التبليغ والبيان وإسناد الوحي للتابعين كانوا أحرص على تبليغ معاني الوحي أعظم من حرصهم على تبليغ مباني الوحي.
ولعل في هذا الحرص إحاطة منهم لهذا الحرف المقدس بهالة سميكة من ضوابط الدراية والرعاية وحفظ الصدور وجريان الألسن بتواتر لم ينقطع سنده ولم ينضب ولن ينضب ماؤه إلى آخر نفس منفوسة على وجه هذه الأرض، حتى اسطاعوا أن يحفظوا بيضة الدين وعروته في غير انفكاك بين المبنى والمعنى، وفي تراص تكسرت على صلادة صفوانه كل المحاولات الزجاجية المترفة، والتي طالب أصحابها بأن يُخلى بينهم وبين نصوص الوحي يفعلون بها ما يشاؤون كي تصير مسايرة لمعارف البشر المعاصرة.
وذلك طبعا لا يكون ولا يتأتى إلا بمنأى عن التركة التدينية من تعاطي الرعيل الأولمع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ومن بعدهكما قال أحدهم:”إننا أتباع الإسلام ولسنا أتباع زيد وعمرو، وإن أحكام الفقهاء غير ملزمة لنا والأحكام الملزمة الوحيدة هي ما جاءت به النصوص”، ولعلها جملة ذات حمولة دلالية تبتسر بين تقريراتها حجم الحقد والعداوة التي يكنها هؤلاء المجدّدينات للسلف الصالح والتابعين من بعدهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وهي عين الحمولة العدوانية التي جعلت في اطراد حكم جيل المستشرقين والمغتربين والعصرانيين وإن اختلفت بهم الأمصار، وتباينت بهم الأزمنة، حكم مفاده التجريح بحقد وتكالب وتهارش مقيت على الصحابي الجليل أبي هريرة لكثرة روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن محمد بنإسماعيل البخاري لكثرة جمعه، حيث لا يزالون يرون في إسقاط صحبة الأولوتجريح عدالة الثاني تقدم وغنمكبير في معركتهم مع إسلام الوحي، ومن ثم إلحاقهزيمة نكراء بالمنتسبين إلى حصونه ومتاريسه العقدية والفقهية والسلوكية.
ولذلك ظل الواقع بصوته وصورته وما كتبت الأيدي وما صاحت به الأفمام وتشدقت به الألسن، ظل ولا يزال يشهد بكون ما ينادي به المجدّدينات من حرية فكر ورفعِللواء التجديد وكذبة إخضاع عنق وعمق التراث الإسلامي إلى أذية القطع والإبانةبمفصلةالنقد التاريخي، إنما هو حماس حقيقة تحركه على الأرض تحكي فزع جنسه ونوعه إلى الفوضى والعبث، والانحلال الذي شعاره التحلل من قيدي الحلال والحرام، والتخلص من السلطة الوجدانية للدين الإسلامي واجتثاث رقابتها من وعلى الأنفس والنواصي والجوارح والأفئدة.
ولعلك لا تكاد تجد في هذا الدرك مناديا بصيغة هذا النوع من التجديد إلا وتلقاه مدافعا عن سفور المرأة ومثلبة استهلاكها كأكلة سريعة تحت ذريعة ومسوّغ حرية الجسد وموبقة ما يسمونه اعتسافا بالعلاقات الحميمية، بل تجده في الصفوف الأولى مدافعا عن حقوق الشواذ والمخنثين في محاولة لإضفاء الفطرية عليها، مشعلا السّرج في نضاله ضد حكم الإعدام حماية لحقوق عتاة المجرمين من الناهبين والقتلة والمغتصبين والبغاة وقطاع الطرق، غير مبال بدماء الضحايا المهدرة والمحروزات المنهوبة وحقالمظلومين وذويهم في نوال ما تقر به عيونهم وتطمئن به عين تسخطهم من أحكام عادلة.
والأدهى من وفي هذا أنه في الغالب لا يدافع عن مطالبه من وجهة علمانية صرفة وإنّما يمرر كل هذا باسم التجديد، ويحاول جاهدا إضفاء طابع الشرعية الإسلامية على مطالبه المارقةواللادينيةواللاأخلاقية، بل نجده في أحيان كثيرة يلبس الفكرة الغربية المحضة ثوبا إسلاميا، وذلك عبر التصرف بالتأويل والتحريف للأحكام التي استمدها الجيل الأول من الكتاب والسنة والإجماع.
ولعل المرء وهو يطّلع على هذا التمرد الفكري الحائف، لا يكاد يعثر بين ركامه على جديد وإنّما هو تكرار واستنساخ على بدء متكرر لتجارب من سبق من المستشرقين والمنافقين والمتربصين، جاء في مجمل أفكاره مصادما لفطر الناس -وإن بدا مدغدغا لعواطف أهل الهوى منهم- متحديا لمشاعر الأسوياء مشكّكا في سخرية جاحدة لما اطمأنت إليه نفوس جماهير المسلمين، في تجرد وانسلاخ عن أي دليل يعضد هذه المزاعم التي تميل في جنوح قادح عن عوائد الناس ومألوفاتهم، ولربما عن غرائز بهيمة الأنعام.
إنه تجديد بطعم غربي وذوق حداثي، يروم أصحابه من المحليين جعل الشريعة الإسلامية مطاوعة في مجالات عدة، منها موضوع المرأة وحريتها وتقييد الطلاق وإلباسه حلة مدنية، في مقابل منع التعدد ومحاربته، وشرعنة الربا وتسويغ معاملاته وجعلها حلالا طيبا، والضرب صفحا عن مظاهر الإلحاد والردة، والتصفيق الشرعي لحالات الشذوذ والتسفل الأخلاقي، وكلّها أمور تناولتها التوصيات الدولية والإقليمية، ونادت بها من قبل الإنتاجات الفكرية للعديد من مراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية”راند وكارنجي نموذجا”.
وإن تعجب فعجب أن تجد العلماني المتعصب الحاقد يستدل على ضرورة وحقيقة ما ينادي ويدعو إليه من عبث باسم التجديد بقول سيد الخلق فيما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم”إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” مقررا في صفاقة أن من حق الناس باختلاف مكانتهم وتباين درجاتهم وتفاوت حجم معارفهم أن يقتحموا حرمة النصوص لينقحوها ويجعلوها مسايرة لتطور الإنسان وتغيّر أحوال دنياه.
والأعجب من هذا أن يعتقد هذا العلماني الحاقد الجهول في نفسه صفة المجدد لينطلق مهرولا في كل صوب وزاوية، موطّنا لفهمه السقيم وفارضا لوجهة نظره على نصوص الوحي كل سنة، وكل شهر، وكل يوم، وكل لحظة، وليرجع في هذا إلى عدِّ خرجات المدعو عيّوش والمدعو عصيد كنموذجين على المثال لا الحصر هدانا الله وإياهما إلى معرفة الحق ثم العض عليه بنواجذ الحرص والاتباع والمحبة.