بالرغم من أن الدساتير التي عرفها المغرب كانت كلها تتحدث عن ثلاث سلط تنفيذية وتشريعية وقضائية، إلا أنه ولحد الآن ما تزال السلطة الإدارية تهيمن على باقي السلطات في التعامل مع المواطن -وأبرزها وزارة الأحباس-.
بل حتى بعد صدور دستور جديد ينص على فصل بين السلط، ويعطي الحق للجمعيات والأحزاب في تنظيم المواطنين، والتعبير عن حاجاتهم وتطلعاتهم عبر انتخاب ممثلين، للدفاع عن تلك التطلعات المصاغة في برامج تنزلها في صيغ أنشطة، وفق القوانين الجاري بها العمل والتي تخضع لرقابة المجالس المنتخبة والأجهزة المؤسسية الضابطة والساهرة على احترام الدستور وما جاء به من حقوق وحريات؛ يستوي في ذلك العمال والموظفون والمهنيون والمشغلون، وعموم المواطنين.
لكن الملاحظ أن الفئات العاملة مع الأحباس لم يشملها على ما يبدو ما سلف ولا تدخل في إطار عموم المواطنين ولا خاصتهم، إذ أن الوزارة التي يعملون معها أو يوكل لها شأنهم تعمل بالتسخير وفق توجيهات تحمل ختم “سري للغاية”.
لذلك نرى أن تعرضهم للعزل والإقصاء، وتكميم الأفواه لا يثير حفيظة أحد من الذين ينصبون أنفسهم للدفاع عن احترام القانون أو الدستور أو حقوق العامل، ورفض الطرد التعسفي لمن يتعرضون له دون أن يكون لهم الحق لا في إسماع تظلمهم ولا في اللجوء للقضاء أو غير ذلك من أشكال التذمر والاحتجاج.
كما أن تحول الوزارة من مدبر ومدير إلى مشرع، لا يثير حساسية عند البرلمانيين نوابا ومستشارين كما لا يثير حفيظة الحقوقيين ومهووسي العدالة الشاملة وحقوق الإنسان ولا رجال العلم والمعرفة، وكأن العاملين بقطاع الأحباس ليسوا بشرا ولا حق لهم في التقنينات الجارية على الناس في داخل البلاد وخارجها بما فيهم منتجو المعرفة من علماء وفقهاء.
إنه لمن المفارقات العجيبة ألا يكون لمرتفقي الأحباس وهم بالآلاف الحق في تكوين جمعيات اجتماعية أو نقابية أو علمية لأن ذلك من المحذورات التي لا قانون في البلد يقول بها، وهو نمط تدبيري يقود لمجهولات منوعة ومتعددة، تنقل التصلب وتغذي التطرف والإقصاء والتهميش، وإعجاب كل ذي هوى بهواه، وبالتالي تنعدم الرؤى الصائبة والغير الصالحة لانعدام المسؤولية وتبعا لها المحاسبة.
مما يجعل معه أقل موظف منتم للوزارة يسير أكبر عالم أو مؤسسة علمية في الاتجاه الغير المنتج، بعد تقييدها بالترخيص والرضى المرغوب المحدد له من مجهول تنقل تعليماته أو ما يفترض أنها تعليمات يحدس أنها قد تكون كذلك بعد أن تختم بـ”سري للغاية”.
وهي مسلكيات تقلب الأدوار وتحول التسيير والتدبير التنفيذي كما سلف لتقرير وتشريع مما يعطل الإنتاج المعرفي ويعرقل التطور الطبيعي للمؤسسات العلمية والطاقات الإبداعية والفكرية التي يطلب منها بعد تكليسها المشاركة في المنافحة عن القيم والمقدسات، فلا يعترف لها ممن توجه له الخطاب لافتقاده المصداقية في الاختيار والصدق في القول والعزيمة في الحرص على التنزيل لأن المكلف بذلك لا تهمه الآراء بقدر ما يهمه الشكل في الزعم بالمشاركة.
من أجل تلافي ذلك العوار صدرت عدة توجيهات ملكية في هذا الباب تأمر بترك مسافة بين المنفذ والمشرع دون أن تنزل على أرض الواقع، بل كانت التوجهات تأتي دائما عكس المأمور به، ولتوضيح ذلك نورد ما يلي:
جاء في الخطاب الملكي بتاريخ 15/12/2000 في تنصيب المجلس العلمي الأعلى: “لقد كان المغرب خلال تاريخه الحافل حصنا منيعا وقلعة عالية للإسلام، وإننا لحريصون على أن يبقى كما كان، البلد الذي يتمثل فيه الدين راسخا قويا باعتباره أساسُ مكون هويتنا ومقومات شخصيتنا”.
وفي خطاب آخر بتاريخ 30/4/2004 قال جلالته:
“إن توسيعنا وتجديدنا للمجالس العلمية لا يعادله إلا حرصنا على ألا تكون جزرا مهجورة من لدن العلماء غير الأعضاء بها، بل نريدها ملتقى لكل العلماء”.
وفي رسالة بتاريخ 10/9/2004 قال: “ولما كان اختيارنا السياسي في المغرب هو ترسيخ النهج الديموقراطي في تدبير شؤون شعبنا تدبيرا عصريا في توافق مع ديننا الحنيف، فإننا نرى أن حرية التنظيم والمبادرة مكفولة بالقانون، تفسح المجال أمام جميع الطاقات التي كانت مكبوتة تحت وطأة الخوف أو الإقصاء أو الاحتكار”.
ترى في أي من المجلات يتم تطبيق هذه التوجيهات؟
إن تحويل مرتفقي الأحباس لخدام التعليمات بدل أن يكونوا منشطي المؤسسات التي ينتمون إليها ومشاركين في إنتاج ما يناسب من الأفكار القادرة على تماسك المجتمع وتمنيع مكوناته من السقوط في شراك المتشددين والغالين أنى كان مشربهم، وترك مساحات الحرية لهم كالتي لباقي مكونات النسيج الاجتماعي حتى يتسنى للأفكار التلاقح والتضايف والتكامل في المشترك، والإعذار والتناصح في المختلف، حفاظا عن السلم المجتمعى، وتمنيع البلاد من كل المنزلقات التي قد لا تخطر ببال المتكلسين والمهيمنين بدعاوى زائفة نبه لها العاهل المغربي كما سلف بيانه.
المعروف أن الخوف من الحرية يؤدي للانفلات، والتضييق على إبراز الرأي وتداوله لا يؤدي لوأده وإنما يتيح له الفرصة لظهوره كضحية يستجلب آلام ضحايا مشابهين لا علاقة لهم بصاحب الرأي إلا في الاضطهاد، وبالتالي بدل أن يكون الرأي أداة بناء يصبح أداة هدم وتشويش في أقل الأحوال.
إذا كان عاهل البلاد منذ أكثر من عقد أمر بأن يقطع مع مسلكيات الإقصاء والاحتكار وتكميم الأفواه، وأن يترك لذوي الشأن المساحة الكافية للعمل والإبداع والتطوير لمحاربة الانغلاق والتطرف والغلو والميوعة والتبعية والخضوع للغزو الخارجي والاستخدام السيء لمناهضة ما هو من الدين بالضرورة بدعاوى مختلفة أبان التاريخ ضررها.
إن المتابع لمنهجية الأحباس طوال ما يقارب من عقدين يستغرب استمرار النهج المعاكس لما أمر به الملك، وما يتطلع له المجتمع وما يريده الفاعلون في الحقل الديني من حرية وكرامة وحق، مما يطرح مفارقة عجيبة تجعل المتتبع يتساءل: لمن يستمع وزير الأوقاف إذا لم يكن يستمع للملك ولا لرئيس الحكومة؟
إن المنهجية التي تعبر عنها وزارة الأحباس وتعمل على تطبيقها منفردة، تضرب في الصميم النهج الديموقراطي والتداول السلمي على السلطة، وتضع المقدسات في ضيق وحرج لا يمكن التعبير عنه إلا بأن هناك من لا يريد بقاء المغرب مسلما على الشاكلة التي عاش عليها منذ آلاف السنين، يدافع عن دينه ومؤسساته الوطنية والاجتماعية وأرضه وسكانه دون ميز أو تفرقة.
لقد تم تجريب التدبيرات الإدارية في الحلول محل المواطنين في تدبير أمور حياتهم، فكان ما يعرفه الجميع، لذلك نقول بأنه آن الأوان إن لم يكن قد فات لأن تكف وزارة الأحباس عن القيام بدور الداخلية في الخوالي من الأيام، والحلول محل المشرعين المنتخبين وفق أحكام الدستور وكذا الجمعيات المدنية الموكول إليها تنظيم الحراك الاجتماعي والمعرفي وفق ما جرى به العمل، ولعل في الإخفاقات التي منيت بها عملية التلفزة في المساجد وإحضار من يعلم المغاربة أمر دينهم من بلاد العم سام وغيرها من البلاءات الهفوات، ما يجعلها تترك الأمر لأصحابه وتقتصر على ما يخوله لها الدستور كوزارة تسيير وتدبير وليس مؤسسة تشريع وتقرير، حتى يقل الخلاف، والله يهدي من يشاء.
اكبر وزارتين فاسدتين في المغرب هما: وزارة الاوقاف، ووزارة التعليم العالي، ففيهما من الفساد ما يستحيل اصلاحه الا ببعث نبي جديد ولا قوة الا بالله