وفاة المفكر السوداني د.جعفر شيخ إدريس

وفاة المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس.. رحيل هادئ لعقل كبير ترك أثراً في الوعي الإسلامي المعاصر
هوية بريس – متابعات
غيّب الموت، صباح أمس الجمعة، المفكر السوداني البارز الدكتور جعفر شيخ إدريس، عن عمر ناهز 95 عاماً، بعد مسيرة علمية وفكرية امتدت لأكثر من سبعة عقود، كانت حافلة بالعطاء في مجالات الدعوة، والتعليم، والفكر الإسلامي النقدي.
توفي الدكتور إدريس في العاصمة السعودية الرياض، حيث أمضى سنواته الأخيرة، بعد حياة حافلة بالتجوال بين العواصم الأكاديمية، والتأليف، والتدريس، والمناظرات الفكرية التي أكسبته مكانة مرموقة في أوساط الفكر الإسلامي، رغم تجاهل إعلامي وثقافي طال أجيالاً من أعلام التيار الوسطي.
فيلسوف بصمت.. وتأثير يتجاوز الأضواء
عرف عن الراحل أسلوبه الهادئ وابتعاده عن الجدل الصاخب، مقابل حضور فكري متماسك، جمع فيه بين أصالة الشريعة الإسلامية وعمق الفكر الفلسفي الغربي، ما جعله من أبرز منظّري التيار الإسلامي المعتدل، وأحد القلائل الذين تعاملوا مع الفكر الغربي بنديّة علمية وعقلانية.
وبرز إدريس كمؤسس لخطاب دعوي عقلاني في زمن طغت فيه الخطابات الانفعالية، وألّف العديد من الكتب التي أصبحت مراجع فكرية في نقد التغريب والحداثة المادية، من أبرزها: الفيزياء ووجود الخالق، الأسس الفلسفية للمذهب المادي، نظرات في منهج العمل الإسلامي، والإسلام لعصرنا.
صمت رسمي وغياب ثقافي
على الرغم من تأثيره العميق في أجيال من طلاب العلم والدعاة والمثقفين، مرّ خبر وفاة الدكتور إدريس دون اهتمام رسمي أو نعي واسع من المؤسسات الكبرى، ما فتح الباب مجدداً أمام التساؤلات حول تهميش رموز الفكر الإسلامي المعتدل في العالم العربي، واستمرار غيابهم عن المناهج والدوائر الإعلامية.
وقد عبّر عدد من الشخصيات الفكرية عن حزنهم لما وصفوه بـ”الصمت الجارح”، معتبرين أن هذا الغياب يعكس أزمة أعمق في التعامل مع رموز التجديد والإصلاح الفكري في الثقافة العربية.
شهادات في وداعه
كتب الدكتور علي محمد الصلابي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ناعيًا الراحل بكلمات مؤثرة وصفه فيها بأنه “أمة وحده”، و”موسوعة فكرية”، مضيفًا:
“كان يخاطب الفطرة والعقل معاً، دون تكلّف ولا استعراض. وإذا كتب أخرس صدى الفارغين”.
أما الكاتب المصري جمال سلطان، فاستعاد أولى لحظاته مع الشيخ إدريس في ندوة علمية ببريطانيا منتصف التسعينيات، قائلاً:
“كان مشروعًا فكريًا متكاملاً، طرح الإسلام بصفته مشروعًا عقلانيًا حضاريًا، لا مجرد رد فعل على التغريب”.
من بورتسودان إلى العالمية
وُلد جعفر شيخ إدريس عام 1931 في مدينة بورتسودان شرقي السودان، وتلقّى تعليمه الأولى في السودان قبل أن يواصل دراسته في مصر وبريطانيا، حيث نال درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن.
امتد نشاطه الأكاديمي والفكري عبر القارات، فدرّس في جامعات عربية وأمريكية، وشارك في مؤتمرات دولية، وكتب باللغتين العربية والإنجليزية، كما كان له عمود فكري شهري في مجلة “البيان” تحت عنوان الإسلام لعصرنا.
إرث لم يُنصف
رغم تميّزه في المزج بين التحليل الفلسفي والمنهج الشرعي، ظلّ إنتاج الدكتور إدريس حبيس أوساط فكرية محدودة، دون أن يُدمج بشكل لائق في المناهج أو يحظى باهتمام المؤسسات الأكاديمية والإعلامية.
مع رحيله، تتعالى الأصوات الداعية إلى توثيق تراثه الفكري، ونشر أعماله، وإعادة إدراجه في سياق النهضة الإسلامية المعاصرة، بوصفه أحد القلائل الذين جمعوا بين الحجة والعقلانية، وبين وضوح الفكرة وسلاسة البيان.
رحم الله الدكتور جعفر شيخ إدريس وأسكنه فسيح جنانه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.



