وقفات علمية مع ما قرره د.أحمد كافي في النقاش حول مدونة الأسرة: السكن الرئيس والإرث (2/2)
هوية بريس – د. رشيد بنكيران
خصصت الجزء السابق لبيان أن الدليل الأول الذي استدل به الدكتور أحمد كافي على أحقية الزوجة بالسكن الرئيس دون بقية الورثة، ليس فيه حجة للمطلوب، وأقف في الجزء الثاني من هذا المقال على دليله الثاني.
تمحيص الدليل الثاني: السنة العملية في حياته عليه الصلاة والسلام
قال الدكتور أحمد كافي:
[كما هو معلوم أن الصحابة ذكورا وإناثا قد هاجروا إلى بلاد مكة… وكان من هذا الانتقال زواج المهاجرات من الأنصار… لكن من هذا الزواج حدث موت أزواج المهاجرات وهن غريبات عن أوطانهن وعن أهلهن، وتوفي أزواجهن ودفع بعض أقارب الهالك من الأنصار المطالبة بحقهم في هذا السكن الذي خلفه الأنصاري وراءه، وليس للأنصاري الذي مات إلا هذا السكن، وليس لهؤلاء النسوة المهاجرات إلا هذا السكن… فكيف تعامل النبي مع هذه الحالة التي ستصبح فيها النساء معرضات للضيعة إن وقعت القسمة؟
هنا نجد في الحديث الذي جاءعَنْ كُلْثُومٍ، عَنْ زَيْنَبَ، “أَنَّهَا كَانَتْ تَفْلِي رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَنِسَاءٌ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ وَهُنَّ يَشْتَكِينَ مَنَازِلَهُنَّ أَنَّهَا تَضِيقُ عَلَيْهِنَّ، وَيُخْرَجْنَ مِنْهَا،
«فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم أَنْ تُوَرَّثَ دُورَ الْمُهَاجِرِينَ النِّسَاءُ»، فَمَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَوُرِّثَتْهُ امْرَأَتُهُ دَارًا بِالْمَدِينَةِ”، روى أبو دواد وأحمد والطبراني…. والحديث صحيح، وممن صححه الشيخ ناصر الدين الألباني] انتهى.
قلت: دل ظاهر حديث زينب على أمور، نبرز منها ما يهم البحث في مسألة الباب، وهي كالآتي:
✓ رفعت النساء المهاجرات شكوى بسبب التضييق عليهن في منازلهن ومطالبتهن بالخروج منها؛
✓ لا يعرف من طالب النساء المهاجرات بالخروج من البيوت هل هم من أصحاب الفروض أم من العصبة؛
✓ أمر الرسول الكريم بأن ترث النساء المهاجرات الدور والمنازل؛
✓ من النساء اللواتي استفدن من ذلك امرأة ابن مسعود، وهي زينب بنت أبي معاوية (1) مهاجرة من المهاجرات، وقد رثت دارا بعد وفاة زوجها؛
✓ عبد الله بن مسعود هو أيضا من المهاجرين وليس أنصاريا، وكان فقيرا، وكانت امرأته تتصدق عليه وعلى ابنهما، فكانت مستغنية وليست فقيرة، وكانت صاحبة حرفة وصناعة، وكانت ممن تتصدق بحليها(2)؛
✓ لا سبيل للحديث عن العصبة الأباعد في أسرة زينب زوجة ابن مسعود لوجود أبناء لهما منهم أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود(3).
وبعد إبراز هذه النقاط يظهر، في تقديري، أنه ليس في حديث زينب ما يشهد لصحة المطلوب بناء على حجج كالآتي:
• أن الدكتور ادعى أن أزواج المهاجرات كانوا من الأنصار، وهذا ليس صحيحا بإطلاق فعبد الله بن مسعود من المهاجرين وليس أنصاريا؛
• أنه ادعى أن نساء المهاجرات ليس لهن من المال إلا ذاك السكن الرئيس، لكن لا ينطبق هذا الوصف على زينب بنت أبي معاوية فهي كانت مستغنية ورغم ذلك ورثت دارا؛
• أنه فسر تصرف النبي الذي أمر بإبقاء الدور للنساء المهاجرات بكونه من باب الإرفاق وليس تمليكا للرقبة، وهذا أيضا ليس صحيحا، فإنه يخالف ظاهر ما أمر به عليه الصلاة والسلام من “أَنْ تُوَرَّثَ دُورَ الْمُهَاجِرِينَ النِّسَاءُ”، أي أن تُجعل الدورُ لهن ميراثًا، وليس هناك قرنية تستدعي أن نصرف المعنى المتبادر إلى الذهن عن ظاهره. يؤكد ذلك أن راوية الحديث زينب بنت جحش أخبرت أن امرأة ابن مسعود ورثت دارا، وليس أنها بقيت فيها ولم تخرج منها من باب الإرفاق، وراوي الحديث ـ كما هو مقرر ـ أدرى بمرويه من غيره. ويزيد الأمر تأكيدا ما أخرجه أحمد عن زينب أيضا أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَرَّثَ النِّسَاءَ خِطَطَهُنَّ. فالخطط هي الدور والمنازل وعبارة “وَرَّثَ النِّسَاءَ” هي من كلام زينب بنت جحش أم المؤمنين التي تصف المراد من تصرف النبي، فهو ظاهر في أن المقصود من أمر الرسول المعنى الحقيقي للتوريث؛ أي أن تُجعل الدورُ لهن ميراثًا وليس أن تعطى لهن إرفاقا دون تمليك الرقبة.
بناء على استنطاق المعاني الصحيحة التي دل عليها حديث زينب ومناقشتها، يمكن الجزم أن الدليل الثاني الذي اعتمد عليه الدكتور لا ينهض كذلك أن يكون حجة شرعية تستفرد بمقتضاها المرأة بالسكن الرئيس دون سائر الورثة من باب الإرفاق. وعليه، فإن أقرب توجيهات العلماء للصواب من بقي وفيا لظاهر حديث زينب وحافظ على المعنى الحقيقي للتوريث الذي أفاده، ومن هذه التوجيهات:
ــ”يشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما خصصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن بها، فجاز لهن الدور لما رأى من المصلحة في ذلك(4)”؛ أي أن تحوز النساء المهاجرات منزل السكنى مقابل حقها في الإرث مع إعطاء باقي الورثة نصيبهم، وهذا لا مانع منه شرعا لأنه ينسجم مع القاعدة الشرعية لا ضرر ولا ضرار؛
ــ”يشبه أن يكون أمره ـ أي النبي عليه الصلاة والسلام ـ بذلك قبل نزول آية الفرائض، فقد كانت الوصية للوالدين والأقربين مفروضة، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالمؤاخاة بينهم، فنسخ بآية الفريضة، وبقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، وعمل الناس يدل على هذا ويرجحه(5)”؛
وتجدر الإشارة إلى أن للعلماء توجيهات أخرى لحديث زينب؛ توجيهات لم تحافظ على المعنى الحقيقي للفظ التوريث، بل فسرته بمعنى مجازي يفيد تمليك المنفعة فقط من باب الإرفاق وليست تمليك الرقبة. وحتى تكون تلك التوجيهات منسجمة مع قواعد الشرع وأدلته، سلك أصحابها مسلكا لا علاقة له بالإرث، ورأوا أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام كان من باب التصرفات بالإمامة أو السياسة الشرعية؛ فمن حق الإمام أو الحاكم أن يقطع دورا عارية -هي في ملك الدولة- لفئة من الناس لمصلحة شرعية، فإذا طالب بعض أفراد الأسرة -عصبة كانوا أو أصحاب فروض- بالاستفادة من هذه الدور بعد وفاة المعيل (الزوج والأب)، فيحق للإمام أن يخص بها الزوجات لنظر مصلحي (6)، ولا يصح لورثة الهالك أن يعترضوا على تصرف الإمام لأن المال مال الدولة وليس للهالك. أما السكن الرئيس الذي هو محل البحث والمناقشة، فهو مال لورثة على جهة التعيين، ولهم حق المطالبة به والتصرف فيه بمجرد موت الزوج، ولا يحق لولي الأمر أو للدولة أن تضع يدها عليه وتتصرف فيه لا بالإرفاق ولا بالتمليك كما سبق تقريره في الجزء الأول من المقال.
وإذا كان الدليلان الأول والثاني لا يفيان بالمطلوب، فقد آن الأوان أن نستحضر مصطلح الأسرة أو أسرة الهالك ولا يبقى الحديث مقتصرا على زوجته، لنبين أن مقترح الدكتور أحمد كافي ـ ولو أن حجته مرجوحة وضعيفة ـ لن يحل المشاكل التي ستنجم عن عدم تقسيم السكن الرئيس بين الورثة وتفضيل أسرة الهالك عليهم، بل سيؤدي في بعض الأحوال إلى حرج شديد، أو حرمان من هو أولى بالشفقة، نمثل لذلك بالصور الآتية:
✓ رجل مات عن زوجتين، فأيهما أحق بالسكن الرئيس من الأخرى عند وقوع النزاع واستحالة العيش معا؟ وبأي معيار شرعي تكون الأفضلية!؟
✓ رجل مات وترك زوجة وبنتا، وقد لا تكون الزوجة أما لتلك البنت، وإذا كان كلتاهما تستحق الرعاية، فبأي منطق نعطي الزوجة السكن الرئيس دون البنت، خاصة إذا كانت البنت أكبر سنا من الزوجة، أو أكثرها منها إقامة في المنزل!؟
✓ رجل مات وترك أما أرملة وحيدة وزوجة عقد عليها حديثا، فأي المرأتين أولى بالرحمة بالسكن الرئيس؟ أليس الهالك لو سئل في حياته عن تفضيل إحداهما لما تردد في تفضيل أمه على زوجته!؟
وإذا كتفينا بهذه الأمثلة التي يتجسد فيها اختلال الميزان أو انعدام الإنصاف ـ وغيرها كثير ـ فإن تخصيص السكن الرئيس بالأسرة أو بالزوجة وتمكينها منه دون سائر الورثة لا يشهد له لا عقل ولا شرع، بل يخالف قطعيات الشريعة المتمثلة في أحكام الإرث التي فصّل الله أمرها في القرآن الكريم وختم الآية بقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
وقبل الختام، فمن الأمور التي لا أجد لها مسوغا مقنعا لدى الباحثين عن الحلول لبعض الأحوال المستعصية، التي قد تتعرض فيها النساء ـ زوجة كانت أو بنتا أو أما ـ إلى التضييق في السكن الرئيس أو الضياع بسبب تقسيم التركة، هو استبعاد دور الدولة في أن تكون شريكا أساسيا في صناعة الحل ـ وهي مسؤولة عن رعاياها شرعا وقانونا، ولهم عليها حقوق ـ وإذا كان لنا أن نستلهم من الدليلين اللذين تمت مناقشتهما الفقه الصحيح والتصرف الشرعي في تلك الأحوال الخاصة، فإن الشاهد منهما الذي لا تخطئه عين، هو المطالبة بأن تؤدي الدولة الواجبات التي عليها، وتسعف تلك النسوة بما يحفظ كرامتهن، ولها القدرة على تحقيق ذلك، لا أن نعطل الحلول الشرعية الممكنة ونعمد إلى حقوق الغير التي أحكمها الله في القرآن ونغتصبها. فنقع حينئذ في ظلمين؛ ظلم لذوي الحقوق، وظلم للشريعة، وقد أبى الله الظلم وحرمه على نفسه وعلى جميع خلقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تنبيه: زينب التي كانت تفلي رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها.
(2) قال أبو نعيم الأصبهاني: “زينب الثقفية المتصدقة المصلية، المتخلية من حليها، المتقربة به إلى وليها” حلية الأولياء وطبقات الأصفياء”. (2/ 69).
(3) أنظر ترجمة أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود الهذلي في سير أعلام النبلاء (4/ 363).
(4) معالم السنن (3/ 48).
(5) عيون الرسائل والأجوبة على المسائل (2/ 769).
(6) قال الخطابي : “قلت قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقطع المهاجرين الدور بالمدينة فتأولوها علي وجهين؛ أحدهما:… والوجه الآخر : أنهم إنما أقطعوا الدور عارية، وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي، وعلى هذا الوجه لا يصح الملك فيها وذلك أن الميراث لا يجري إلاّ في فيما كان الموروث مالكاً له وقد وضعه أبو داود في باب احياء الموات، فقد يحتمل أن يكون إنما أحيا تلك البقاع بالبناء فيها إذ كانت غير مملوكة لأحد قبل والله أعلم”. معالم السنن (3/ 47).