وقفات فقهية نقدية مع تعديلات المدونة الأسرية (ج1)
هوية بريس – د. أنس القرباص
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله، وبعد:
فهذه وقفات فقهية نقدية تبين حكم الشرع في التعديلات الجديدة لمدونة الأسرة التي وافقت عليها “اللجنة العلمية الممثلة للمجلس العلمي الأعلى”.
قبل الشروع في بيان وجه مخالفة هذه التعديلات لقواعد الشريعة الإسلامية، كان حريا باللجنة العلمية الممثلة للمجلس العلمي الأعلى، أن تبين للمسلمين المغاربة عامة، وللعلماء وطلبة العلم خاصة، البراهين والحجج والاستدلالات التي أقاموا عليها “اجتهادهم” في المسائل المذكورة، أو على الأقل، كان من المفروض أن يوضحوا لهم المرجعية العلمية العامة التي استندوا إليها، هل هي “المذهب المالكي”؟ أم “المذاهب الأربعة”؟ أم “المذاهب الثمانية”، أم “اللامذهبية” أم “التلفيقية” ؟ … وذلك حتى يستطيع الباحث أن يقيس مدى احتكام تلكم اللجنة إلى المرجعية التي زعموا الانطلاق منها، والبناء عليها.
– المسألة الأولى: حكم الزواج بدون إشهاد.
قرر الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أن عدم الإشهاد على النكاح يوجب بطلانه وعدم صحته، وحجتهم في ذلك نص النبي صلى الله عليه وسلم الصريح – الذي رُوي من طرق متعددة-: “لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل”، (رواه الشافعي، وابن حبان، والطبراني، والدارقطني، وغيرهما).
وفي روايتين للدارقطني، أنه صلى الله عليه وسلم قال: “لا نكاح إلا بولي وشهود ومهر”، و”لا بد في النكاح من أربعة: الولي والزوج والشاهدين”.
وأما القول بأن الإشهاد غير واجب، فهو قول شاذ لا يعول عليه، وحجة أصحابه أن القرآن لم يذكر وجوب الإشهاد في الآيات التي تحث على الزواج، وقالوا: هي مطلقة فتبقى على إطلاقها، وهذا الاستدلال في غاية التهافت؛ لأن المقرر عند علماء الأصول، أن المطلق والمقيد إذا كانا من باب واحد، فإنه يقضى فيهما بوجوب حمل المطلق (وهو آيات القرآن في الزواج) على المقيد (وهو هنا اشتراط الإشهاد).
ووجه ثانٍ لفساد هذا القول، وهو أن العمل بالدليلين عند إمكانية الجمع بينهما، أولى من العمل بأحدهما، وإهمال الآخر، والجمع هنا ممكن وظاهر.
وقد يقول قائل: إن المالكية لا يشترطون الإشهاد لصحة النكاح، والجواب عن هذا، أن هذا القول على الرغم من ذيوعه وانتشاره عن المالكية إلا إنه ليس بصحيح عنهم، وذلك أن الإشهاد في المذهب المالكي هو شرط صحة للنكاح، وانعدامه يوجب فسخ النكاح بطلقة بائنة، وهم يرون أنه واجب عند الدخول، ومستحب عند العقد (خلافا للجمهور الذين يرون أنه واجب عند العقد).
قال الخرشي في شرح مختصر خليل: “(وَفُسِخَ إنْ دَخَلَا بِلَاهُ) المعنى: أن الزوجين إذا دخلا بلا إشهاد فإن النكاح يفسخ بينهما بطلقة بائنة، ولا حد على الزوجين إن كان النكاح والدخول ظاهرا فاشيا بين الناس، أو شهد بابتنائهما باسم النكاح شاهد واحد، ولو علما أنه لا يجوز لهما الدخول بلا إشهاد”. (شرح الخرشي على مختصر خليل، 3/168).
ونشير هنا إلى أن القول بصحة النكاح دون الإشهاد، هو قول الشيعة الإمامية، قال صاحب المختصر النافع في فقه الإمامية: “يستحب الإعلان والإظهار في النكاح الدائم والإشهاد، وليس الإشهاد شرطا في صحة العقد عند علمائنا أجمع”. (المصدر السابق، 1/170).
والسؤال هنا: ما هي المرجعية العلمية التي استندت إليها “اللجنة العلمية الممثلة للمجلس العلمي الأعلى” في هذه المسألة، هل هي “الشذوذية” (بمعناها الفقهي) أم “الشيعية الإمامية”؟ ثم، لمَ عدلت عن معتمد المذاهب الأربعة؟
فإن قال قائل: إن تعديلات المدونة لم تسقط الإشهاد من شروط الزواج بصفة عامة، وأنها تحدثت عن حالة خاصة، وهي الترخيص في عقد الزواج بالنسبة للمغاربة القاطنين في الخارج في حال عدم وجود شاهدي عدل من المسلمين، وهي نازلة خاصة في سياق خاص نادر الوجود يمكن أن ينزل منزلة الضرورة، قلنا: إن الأصل في الأحكام الشرعية أنها عامة ومطلقة، ولا يستثنى منها إلا من كانت عنده ضرورة شرعية حقيقية، وهي في هذا المقام غير متحققة، وذلك أن المسلمين منتشرون في شتى البقاع والأقطار، وفي مختلف الأزقة والأحياء، ولا يشترط للإشهاد أن يكونوا من أهل البلد، بل يكفي في ذلك الإسلام والعدالة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه يمكن للقنصليات والسفارات التي يعمد إليها المقيمون لاستخلاص الوثائق الإدارية أن يقدموا هذه الخدمة، إما عن طريق موظفيها ممن يتسمون بالعدالة، وإما عن طريق استقدام موظفين يعينون لأجل هذه المهمة، وذلك أمر يسير وغير مكلف، ويمكن أن نستعرض حلولا أخرى غير هذه…
وعموما، فإن الحكمة من وجوب الإشهاد في النكاح كما ذكر الفقهاء، هو أنه يتعلق به حق غير المتعاقدين، وهو الولد، لئلا يجحده أبوه، فيضيع نسبه، ومن حكمة تشريعه كذلك، أنه يتضمن درء التهمة عن الزوجين. (انظر على سبيل المثال: المغني، لابن قدامة (9/348، والفقه الإسلامي، للزحيلي، 9/6559 وغيرهما).
(يتبع…. في الحلقة الثانية).