وقفات فقهية نقدية مع تعديلات المدونة الأسرية (2)
هوية بريس – حرره: د.أنس القرباص
بينا في المقال السابق أن إسقاط الإشهاد في النكاح بالنسبة للمسلمين المغاربة – سواء كانوا مقيمين بالبلد أو غير مقيمين به – هو أمر لا يصح، ومخالف لما هو مقرر عند المذاهب الأربعة وغيرهم، وفي هذا المقال نقف مع التعديل الثاني من التعديلات الأسرية والمتعلق بإخراج بيت الزوجية من التركة.
اقرأ أيضا: وقفات فقهية نقدية مع تعديلات المدونة الأسرية (ج1)
– المسألة الثانية: إيقاف بيت الزوجية عن دخوله في التركة
وخلاصة هذا التعديل، أن البيت الذي يسكنه الزوجان يستثنى من الميراث، فتنفرد به الزوجة دون بقية الورثة من الأبناء الذكور والإناث، ومن الوالدين، وغيرهما، وهذا القول لا شك أنه مخالف لقواعد الشريعة، وليس له مستند صحيح، ولا شاهد سليم .. وبيان مخالفته للشريعة من أوجه عديدة:
الوجه الأول: حقيقة التركة في اللغة والشريعة
التركة في لغة العرب: ما يتركه الشخص ويبقيه، وهي في الشريعة: “كل ما يخلفه الميت من الأموال والحقوق الثابتة مطلقاً فتشمل الأشياء المادية من منقولات وعقارات، والحقوق العينية، والحقوق المتعلقة بالتركة، والمنافع، والحقوق الشخصية” (انظر على سبيل التمثيل: الفقه الإسلامي وأدلته، للزحيلي، 10/7725ـ وموسوعة الفقه الإسلامي، 4/293 وما بعدها)، وهي عند الحنفية: “الأموال والحقوق المالية التي كان يملكها الميت”، فتشمل الأموال المادية من عقارات ومنقولات وديون على الغير، والحقوق العينية التي ليست مالاً، ولكنها تقوم بمال أو تتصل به، وخيارات الأعيان”. (المصدر السابق نفسه، وموسوعة الفقه الإسلامي، 4/293)، فلا تشمل عندهم المنافع، ولا الخيارات الشخصية لتعلقها بالميت.
وما يهمنا هنا، أن التركة باتفاق المذاهب (حتى من غير المذاهب الأربعة كالإمامية والزيدية…)، تشمل “كل” ما خلفه الميت من أموال، وعلى رأس هذه الأموال: العقارات كالدور والأراضي وغيرها، وعلى هذا، فدخول ما اصطلح عليه بــ”بيت الزوجية” في التركة هو أمر قطعي ولا نزاع فيه؛ لأنه من مشمولات التركة التي يتركها الميت بعد وفاته، وهو أمر دلت عليه الحقيقة اللغوية والشرعية -وكذا العرفية – للفظ التركة.
الوجه الثاني: أن الحقوق المتعلقة بالتركة محددة، ومحصورة بالاستقراء، ولا مدخل فيها للزيادة والاستدراك
إن الحقوق المتعلقة بالتركة محددة شرعا، وتحديدها ثابت باستقراء الشريعة؛ حيث إن العلماء تتبعوا مواردها وتصرّفاتها وأحوالها، وانتهوا إلى أن الحقوق المتعلقة بالتركة هي خمسة (على خلاف بين العلماء في تصنيفها وترتيبها، ليس هذا محل إيراده)، انظر: (شرح الزرقاني على مختصر خليل، 8/359، وحاشية رد المحتار، لابن عابدين، 6/757).
وهذه الحقوق المتعلقة بالتركة، هي:
أولا: الحقوق العينية المتعلقة بالمال، كالرهن، والجناية، وغيرهما.
ثانيا: مؤونة تجهيز الميت.
ثالثا: الديون.
رابعا: الوصايا.
خامسا: الميراث.
هذه هي الحقوق المتعلقة بالتركة، وهي ثابتة بالاستقراء التام لموارد الشريعة، ولا يوجد من ضمنها كما ترى: حق الزوجة في “بيت الزوجية”؛ لأن هذا “الحق” المزعوم ليس حقا عينيا تعلق بالمال حال حياة الميت، ولا يدخل ضمن مؤونة التجهيز، كما أنه ليس ديْناً، ولا وصيةً (ولا وصية لوارث إلا إن أجازها الورثة) ولا ميراثاً شرعياً؛ لأن ميراثها محدد شرعا (الثمن عند وجود الفرع -أي الأبناء-، والربع عند انعدامه). كما أن هذا الحق لا يمكن إدراجه كحق مستقل، لأن الحقوق الخمسة المذكورة محصورة بالاستقراء.
الوجه الثالث: بطلان تعليل تخصيص الزوجة ببيت الزوجية دون بقية الورثة
قد تبين في الوجه الأول والثاني: أن بيت السكن الخاص بالميت هو ملك لجميع الورثة (إذا سلم من بقية الحقوق الأخرى المتقدمة على الميراث)، وليس لزوجته حصرا، ونحن نتساءل هنا عن علة تخصيص “بيت الزوجية” بالزوجة دون غيرها من الورثة، كالأبناء الذكور والإناث، والوالدين، وغيرهم، فإن قيل: إن علة حصولها على “بيت الزوجية” هي لكونها “امرأة”، قلنا بأن هذه العلة تتحقق في بنت الميت، وأمه، وجدته، وأخته سواء كانت شقيقة أو لأب، أو لأم ….، فلمَ خصصتم هذه المرأة دون غيرها من النسوة؟
وإن قيل: إن علة استحقاقها لبيت الزوجية هي “الزوجية”، قلنا إن هذا العلة ينبغي أن تتحقق طردا وعكسا، بحيث إذا ماتت الزوجة التي تملك سكنا، فإن هذا السكن ينتقل لزوجها، وهم لا يقولون بذلك، فبطل تعليلهم هذا.
وإن قيل: إن علة تخصيصها بالبيت دون بقية الورثة، هي “القرابة”، قلنا: إن جميع الورثة تجمعهم علاقة القرابة بالميت، وبعضهم أقرب إلى الميت منها، كالابن، والبنت، وغيرهما.
وعلى هذا، يكون تخصيص الزوجة ببيت الزوج دون غيرها ظلما لسائر الورثة، ولاسيما أنه لا امتياز لها عنهم.
الوجه الرابع: أنه لا يجوز للوارث أن يأخذ أكثر من حقه إلا إذا تنازل له الورثة
ومن هذا الباب -على سبيل التمثيل- نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصية للوراث، في قوله عليه الصلاة والسلام: “لا وصية لوارث” (أخرجه أبو داوود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم)، وفي زيادة عند الدارقطني (إلا أن يشاء الورثة)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم، القرار بيد الورثة، فإن أرادوا إنفاذ الوصية، فلهم ذلك، وإلا فلهم الحق في عدم إنفاذها ومنعها، ضمانا لحقوقهم ومكتسباتهم.
* مسألة: في تفنيد جعل إخراج “بيت الزوجية” من التركة، هو من باب ما اصطلح عليه بـ”العمرى الواجبة”.
القول بأن إخراج “بيت الزوجية” من التركة، هو من باب ما سمي بالعمرى الواجبة، لا يصح ولا يستقيم، وبيان ذلك على وجه الإيجاز:
1- أن العمرى نوع من أنواع الهبة، والأصل في الهبات أن تكون عن طيب خاطر، لا بالإكراه، وقد قضى الفقهاء ببطلان هبة المكره.
2- أن الزوج إذا وهب لزوجته سكناه مع اشتراطه رجوع السكنى إليه بعد مماتها (أي على سبيل العمرى) هو شرط باطل عند جمهور الفقهاء، حيث يقولون: إن هذا السكن يبقى لورثة الزوجة، ولا يرجع للزوج.
3- جمهور الفقهاء يرون أن العمرى تنتقل إلى ورثة المعمر له، وقد يقال: إن المالكية يرون أن العمرى من باب تمليك المنفعة وليست من باب تمليك العين، وهذا صحيح، لكنهم منعوا أن يهب الزوج لزوجته دار سكناه، لعدم تحقق الحيازة والقبض، جاء في الشرح الكبير للدردير: “(و) صحت (هبة زوجة دار سكناها لزوجها) (لا العكس) وهو هبة الزوج دار سكناه لزوجته، فلا يصح؛ لعدم الحوز؛ لأن السكنى للرجل لا للمرأة؛ فإنها تبع له. اهـ.” وهو قول الحنفية والشافعية (على تفصيل عندهم).
4- إذا ثبت أن هذه العمرى باطلة، لما فيها من الإكراه، وعدم الحيازة، فقد تقرر الأصل، وهو أن سكن الزوج هو لجميع ورثته، وليس لوارث بعينه.
وأخيراً، ينبغي للزوجة أن تعلم أن هذا البيت الذي ستأخذه حرام؛ لأنها أخذته بغير حق شرعي، ولأنها ألحقت الظلم ببقية الورثة، وهو من دون أدنى شك من باب أكل أموال الناس بالباطل، والله تعالى يقول في كتابه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ” (سورة النساء:29).
(يتبع …. في الحلقة الثالثة).