وقفات مع نابزي العربية بالعجز والموت والنقصان
هوية بريس – محمد بوقنطار
أكثر وأغلب، إن لم نقل كل من يأكلون ويتناولون ويخوضون مع الخائضين في عرض لغة الضاد، لا يخرج جنسهم عن طغمة تغذت معدتها النفعية والوصولية من خيرها وأناب ضميرها لغيرها، فكم من صنف هؤلاء النشطاء هم من المحامين الذين لطالما وقفوا بين يدي قاضي الدنيا يصولون ويجولون ويقعقعون ويفرقعون دفاعا عن موكليهم من الضحايا والمظلومين ومن المتهمين والمجرمين بلغة الضاد ولسانها المخضرم أو الفصيح، فيا لكبيرة هذا الجحود وهذا التمرد والعقوق، فقد كستهم بعد فضل الله من عري، وأطعمتهم من جوع، وسقتهم من ماء معين بعد عطش مردوف بشرب من ماء غور أجاج، وأسكنتهم المغاني وملكتهم الضيعات، وأركبتهم المراكب واليخوت الفخمة، ونزلتهم مطايا وظهور الخيل المسوّمة، وأغرقت زيجاتهم في زينة القناطر المقنطرة من الذهب…
ولقد آثرت أن أوطئ بين يدي هذا المحبور بهذه الحقيقة، وإن كان خروجها مني مخرج الإخبار لا التمنن، ذلك الإخبار الذي يجعلها قاعدة انطلاق نحو التأسيس والوقوف والتأكيد على طبيعة وماهية هذه الحرب الشعواء، وهذا الحقد الذي فاضت به صدور، وضاقت به أخرى، وتحنقت منه ثالثة، ولعل هذا ضروري واضطراري لتحديد معالم هذه المغازي الظالمة التي توقد حروبها بين الفينة والأخرى، وتستفاق فتنتها، وينفخ في رمادها الميت من حين إلى آخر.
سيما وأن من يشهرون سيف الخروج ويشقون عصا الطاعة عن سلطان لغة الضاد في محرابها وقعر بيتها الجغرافي، لم يعرف عنهم ولا عن سيرتهم المعرفية أو الأدبية أو الأكاديمية -إن وُجدت- أنهم استوعبوا وألموا بعوالم هذه اللغة الحية، أو أنهم ختموا لسان ابن منظور الختمات تلو الختمات، أو أنهم تبحروا في فقه هذه اللغة وبلاغتها ونحوها وصرفها واستاموا المستوى الذائقي لديها، أو أنهم قلبوا المعاجم والقواميس ذات اليمين وذات الشمال، أو أنهم رجعوا إلى التراث المعرفي والمعجم العلمي ثم نخلوه وذروا زرعه وسبروا غوره وسلكوا فجاج معانيه ودلالاته، ثم انتقلوا ليفحصوا موروث الدول العربية التي كان لها الريادة والسبق في تدريس العلوم علوم “الطب/الهندسة/الفلك/ الفيزياء/الكيمياء”، وأعملوا موازين القياس والمقارنة وضبطوا هذا المجهود وسقوه بماء التجرد والإنصاف وصدق الانتساب إلى هذه الأمة الموصولة بالله، ثم بدلوا الجهد في الإعمال لا الإهمال فعمدوا إلى هذه الحصيلة والتركة المباركة فتفقدوا مسالكها الاصطلاحية، وبحثوا مناكبها اللغوية، وغاروا حقا وصدقا مما وصلت إليه مدنية الغرب من تقدم في ميادين الطب والهندسة والميكانيك فحاكوها في الصالح دون الطالح، ونافسوها في الفلاح بدل الانبطاح، وجاروها في الانغماس عوض الارتكاس.
ثم بعد هذا الجهد تعقيبا وتراخيا وقفوا على مكامن الضعف والقصور والهلكة التي تطبع أو ستطبع تجربة أو مغامرة الإقدام على التعريب وتفعيل آليته ذات البعد المفلس، ليستشرفوا بعد حين فشل اللغة في إدارة دوالب الأزمة التي وصلت إلى دركها منظومة التعليم بدولنا العربية جميعها، مقابل ما وصلت إليه مدنية الغرب من تقدم في ميادين الردع والقوة والطب والصيدلة والفلك والهندسة والتكنولوجيا بشتى فروعها.
غريب مستغرب أن نجد هؤلاء المشاكسين المعاندين يعاكسون من عدم وفراغ معرفي مذهل، عمدتهم وزاد وقود محركهم بغضهم وحقدهم ومكنون خفايا صدورهم مما وصف ربانيا بالأشد في حق هذه اللغة وأهلها وكتابهم تبعا ودينهم باللازم، وإن توارت هذه الخلفيات وراء أكمة من الأستار والأعذار، ذلك أنه قلّما أو يكاد يكون من المستحيل أن تجد مناهضا كارها مبغضا متهما للغة الضاد إلا وكان من لازم ومقتضى هذا البغض اقترانه في غير انفكاك بمشاعر البغض والكره للدين نفسه وناسه عينهم، ولذلك فكما تنعت اللغة العربية بالعجز والقصور ينعت أهلها بالظلامية ومحبي القبور وينعت دينها الإسلام بالرجعية والأفيونية، في سياق سلسلة كلامية من حديد، ذات بأس وشكيمة وتباين منابر، حلقات سلسلتها متواصلة الإسناد يجر بعضها بعضا في تواتر مرسل مقيت.
عجيب مستعجب أن لا نجد في صفوف هؤلاء الحاملين للواء مناهضة العربية والتعريب مترجمين عملوا لأمد طويل في ترجمة العلوم الغربية، وجربوا مجاهدة التنقيب على اللفظ العربي الملائم الموائم الذي اندرس تحت ركام قشرة سميكة من خليط الغباء والنسيان والجحود، ثم بعد ذلك وقفوا على مسلمة أن لغة الضاد لا تستطيع إلى هذا الحج والفج العميق سبيلا.
ثم ألم يقرؤوا لتاريخ من ينيبون إليهم ويخبتون لكل وافد صقيعي موسوم بخاتمهم أن جامعاتهم ما فتئت تعكف على تحقيق المخطوطات العربية النفيسة والنادرة، وما يزال طلبتهم إلى يوم الناس هذا يقبلون على لغة الضاد ويحررون بها بحوثهم الجامعية العليا بتأشير وتشجيع من الأساتذة المبرزين هناك كما في جامعة برشلونة على سبيل المثال، ثم ألم يصلهم خبر تدريس الطب في الشقيقة سوريا لعقود من الزمن خلت، وكيف أن الطبيب المتخرج من كلية الطب السورية ودراسته لهذا التخصص باللغة العربية لم يمنعه أن يكون رائدا متميزا على رأس الدفعات الانتقائية في كثير من الاختبارات الموسمية التي كانت ولا تزال تنظمها كل من الولايات المتحدة الأمريكية ودولة بريطانيا، وكل ذلك له شواهده وما يعضده بالأرقام والمعدلات.
ثم ألم يتساءل هؤلاء عن طبيعة ومضامين ذلك الثرات العلمي والمعرفي الغزير الذي أقبلت عليه بنهم وجوع وحاجة معرفية النواصي الغربية وانكبت بكل حرص وجد واهتبال على ترجمته إلى ألسنتها الأعجمية، ثم أدخلته إلى مختبرات التحليل والتشكيل وإعادة التركيب، فاستفادت وأفادت ترسانتها العلمية والبشرية من الأجيال الجامعية المتخصصة.
ثم أين هم وما كان موقفهم من مقترحات وإنتاجات الكثير من الأساتذة الجامعيين المبرزين الذين أقدموا مشكورين على توجيد قواميس علمية في ميادين شتى بلغة عربية معاصرة، بعيدا عن منطق التورع من التورق من الثرات الأصفر كما هو النبز منتشر شائع، فهل يا ترى اقتحموا عقبة هذه الإنتاجات ومارسوا عليها ما يزعمونه ويدعونه من سطوة علمية ومعرفية لا يرد جانبها ولا يهزم.
ولنأخذ كمثال على هذا الموقف السلبي والتلبس بخلفية الوجهين ودور المتباكي الضحية، وأعني بها تجربة المخترع الشاب المغربي الطموح عبد الله شقرون الذي ظل متأبطا مشروعه العلمي الضخم متنقلا به من بلد عربي إلى آخر، ومن مؤسسة حكومية أو صحفية إلى أخرى حتى لقي الله وفي جوفه ومعه سافر الطموح ورحل الأمل الذي كان يحذوه ويأمل أن يرى أمته متدثرة بثوبه الحضاري والمدني العظيم، لم نسمع لهم ركزا ولا رأينا لهم تعاطفا أو حتى تعزية كتلك التي يحظى بها وينالها من ورائه مغن أو فنان سمعوا بموته فهرولوا في مسعى التعجيل بتأبينه وبيان حسرة فراقه وضياع حظ الأمة من فنه الراقي…
ثم ما دليلهم المادي والمعنوي ومسوِّغهم العلمي والأدبي في قضية ربط التخلف والجمود وعدم الإبداع بتجربة التعريب أو طيفها المقطوع الرأس، سيما وأنها تجربة قصيرة الأمد أردفت فترة ذات باع من الزمن غير قصير، فترة تصوّلت وعربدت إبانها لغات المستعمر أين أناخت ركائبه الظالمة الغاشمة، وهي فترة للإشارة عاشت بلا بوصلة ولم يعرف لها اتجاه، ولم تسجل غنما ولا كسبت رهانا ولا حققت نجاحا.
وعلى من يريد تفنيد هذا الوصف أو هذا الاتهام لتلك النتيجة والمحصلة، عليه أن يجد مبررا ومسوِّغا مقبولا لذلك الانتقال الذي جعل الوزير عز الدين العراقي بعد موافقة الحسن الثاني ملك المغرب رحمه الله يؤشر ويقبل بانطلاق وبداية مشروع التعريب في المملكة المغربية، ذلك أنها انطلاقة اضطرار وضرورة تحرر وانفكاك من عقال فشل ودرك إفلاس، حيث جاء التفكير في تعريب المقررات العلمية ودخل على الخط كمنقذ وحلٍّ وجابر كسر كان قد أصاب المنظومة التربوية في مقتل لسنين عددا.
وإذا كان العقل العلماني والوجدان الاستغرابي قد طال عليه الأمد فنسي، فعلى من يحمل ذاكرة لا نقول وقّادة وإنما تحمل بين ثنايا باحاتها حملا خفيفا، أن تضعه وتحيِّن وضعه بين أيدي الناس جميعا، عسى أن تتضح الأمور وتتكشف جبرية وقسرية واعتساف قرار العودة إلى الفرنسة بمسوِّغات هي من البهتان والتحامل لا من الحقائق العلمية الوازنة الرصينة.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
بارك الله فيك استاذنا العزيز و زادك الله علما وحكمة و تبصرة.