وقفات نقدية مع كلمة وزير الأوقاف.. خرق الوزير أحمد توفيق للإجماع القطعي اليقيني

15 يوليو 2025 22:07

وقفات نقدية مع كلمة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية

الثانية: خرق الوزير أحمد توفيق للإجماع القطعي اليقيني..

هوية بريس – د.محمد عوام

المال فيه شائبتان، شائبة التعاقد المبني على رضا الطرفين، لأن العقود لا تبنى على الإجحاف، والقهر، والإكراه، والغبن، والغرر…إلخ. وفيه أيضا شائبة التعبد، وذلك بالتزام ما شرعه الله فيه، من شروط وواجبات، واتقاء الشبهات، وحِلِّية المال، بأن يكون مصدره طيبا وحلالا، لا مغصوبا أو مسروقا، أو محرما، لذلك وردت أحاديث كثيرة في البيوع المحرمة أو المنهي عنها، ولو رضي بذلك المتعاقدان، فإن الشريعة لا تقرهما على ذلك، فتلك الأموال المحرمة في حكم المعدوم، فالمعدوم شرعا كالمعدوم حسا. وقد تكفلت كتب السنة وشراحها ببيان أنواع البيوع المنهي عنها، ناهيك عن مصنفات الفقه.

والغريب أن يقوم الوزير بمقدمة تمويهية للخلوص إلى نتيجة غير مرضية، وهي من باب كلام حق أريد به باطل، وهي التعاقد والتراضي، وهو أمر معتبر في الشريعة، وعليه مدار العقود، لقوله تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاض مِّنكُمۡۚ” [النساء: 29]

قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: “قوله (بالباطل) أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا، من ربا، أو جهالة، أو تقدير عوض فاسد، كالخمر والخنزير وغير ذلك. وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه، كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب. وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها… قوله تعالى: (عن تراض منكم) أي عن رضى، إلا أنها جاءت من المفاعلة إذ التجارة من اثنين”. (الجامع لأحكام القرآن (5/151، 153).

لكن الذي غفل عنه الوزير أن التراضي لا يكون إلا وفق ما جاءت به الشريعة، وكل ما يخالفها، ويخالف مقصودها فهو باطل، ولو تمالأ عليه الناس، فلذلك أبطلت الشريعة كل شرط باطل.  فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ‌كل ‌شرط ليس في كتاب الله عز وجل، فهو مردود، وإن اشترطوا مئة مرة ” (أخرجه الإمام أحمد في مسنده).

وقال صلى الله عليه وسلم: “ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط”. رواه البخاري وأحمد وغيرهما. ومعنى قوله: (‌كل ‌شرط ليس فى كتاب الله) -على ما بينه ابن بطال في شرحه- “معناه فى حكم الله وقضائه من كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، فهو باطل”. (شرح صحيح البخاري لابن بطال 7/ 79).

وهذا المعنى الذي نص عليه- ابن بطال، هو الذي ذكره غير واحد من العلماء، كابن عبد البر في (الاستذكار 5/444)، و(التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق بشار عواد 7/117)، وهو ما جرى عليه الفقهاء من كافة المذاهب، لا نريد أن نطيل في نقل أقوالهم، فهي مبثوثة في مصنفاتهم وتواليفهم. مما يفيد أن رضا المتعاقدين لا يكفي وحده، إذا تطرق اختلال لأصل العقد، سواء من جهة المتعاقدين، أو من جهة المعقود عليه، أو صيغة العقد. فبذلك فالشروط المعتبرة بين الناس أو المتعاقدين، هي التي تقرها الشريعة، فلا تتعارض مع نصوصها ومقاصدها. والوزير بحكم بعده عن هذا التخصص فإنما يطوح في خضخاض، بتمويهات فاسدة ومضللة، لا يقرها شرع ولا عقل.

على أن قصد الوزير توفيق من القول بالتراضي وتحقيق مقصد العدل، من غير رعي مقصود الشرع الحقيقي لا المتوهم، هو ما عبر عنه صراحة بقوله: “وعلى هذا الأساس في التعامل المالي بالفوائد على القروض يتعلق بالتشرع أي التعاقد والتراضي الكفيل بالعدل أكثر مما يتعلق بالتعبد”.

لكن نحن نسائل السيد الوزير أي عدل يوجد في التعامل المالي بالفوائد على القروض؟ أليس ذلك الربا بعينه؟ أليس فيه استغلالا فاحشا وامتصاصا لدماء الناس وأكلَ أموالهم بالباطل؟ لا إخال الوزير توفيق إلا أنه سقط سقوطا مدويا بتحليله لما حرم الله من الربا، والقول إن ذلك يتعلق بالتشرع والتعاقد بالتراضي قول باطل، لا تقره أصول الشريعة، ولا قواعدها، كما هو مبثوث في كتب الفقه. فالربا من الكبائر المحرمة، وفيه نزل الوعيد الشديد، الذي لم يذكر مثله في كبائر أخرى، وذلك قوله عز وجل: “ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَة مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡب مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ” [البقرة: 275،279]

وقوله سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفا مُّضَٰعَفَةۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ” [آل عمران: 130].

وقوله جل جلاله: “فَبِظُلۡم مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرا وَأَخۡذِهِمُ ٱلرِّبَوٰاْ وَقَدۡ نُهُواْ عَنۡهُ وَأَكۡلِهِمۡ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيما” [النساء: 160-161].

والذي جهله السيد الوزير -لأنه ممن يسوق أدلته (الشبه) بروح الاستظهار، لا بروح الافتقار كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله، لأن قصده من ذلك أن يجد للفوائد الربوية مشروعية، بحجة التعاقد والتراضي- أن المجامع الفقهية كلها أجمعت على تحريم الفوائد البنكية، وأصدرت في ذلك فتاويها المعززة بالأدلة، وردت على بعض الشذوذات. ونذكر منها قرار: مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة الصادر سنة 1406ه/1985م، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بالقاهرة الصادر سنة 1385ه/1965م، والمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة سنة 1406ه. وغيرها من المجامع الفقهية، كلها أجمعت على أن “الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم…” (ينظر تفصيل ذلك في قرارات هذه المجامع).

وإذا كان الوزير لا يقر بذلك، بناء على “الخصوصية المغربية” التي يتجمل بها، فأحيله على فتوى للعلامة رئيس رابطة علماء المغرب الشيخ عبد الله كنون رحمه الله، فقد ورد عليه استفتاء نصه ما يلي: “يرجى إفادتنا بفتوى صريحة عن فوائد المصارف التي تؤخذ عن السلف التي تمنح للمواطنين لغرض التجارة أو البناء…”

فأجاب رحمه الله بقوله: “إن هذه السلف ليست من القرض الحسن، الذي ندب الله إليه، لأنها كما في السؤال تؤخذ عنها فوائد، وليست من القراض الذي يكون فيه الطرفان أعني المعطي والآخذ شريكين في الربح والخسارة، كما يظهر من السؤال عن ذلك، ومما هو معهود من المعاملات المصرفية، فلم يبق إلا أنها ربا أي زيادة على رأس المال، والربا حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكله وموكله، لا يستثنى من ذلك فرد، ولا جهة رسمية كالمصارف، ولا يتسامح في شيء منه قليل أو كثير لقوله تعالى: “وأحل الله البيع وحرم الربا” فأطلق ولم يقيد بقليل ولا كثير، ثم قال بعد ذلك: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا”…

هذا ومن إيحاء الشياطين لأوليائهم تسمية الربا بالفائدة، ليسوغوه في نظر المؤمنين، وهو أمر أنذر به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال في قوم من المسرفين على أنفسهم: “يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها”. الحديث،…” (فتاوى العلامة عبد الله كنون 43، وانظر فتاوى الشيخ الطاهر ابن عاشور 349، فتوى في التعامل بالأوراق المالية في الصرف).

وعلى هذا فالذي يحرج ضمير المسلمين، على حد عبارة الوزير نفسه، هو من يتطاول على الأحكام الشرعية القطعية المجمع عليها، وليس من يتمسك بها. ثم أنا على يقين أن المجلس العلمي الأعلى لن يوافق الوزير توفيق على ما جنح إليه، وإن كان قد التزم الصمت، اللهم إلا من كان على شاكلته ممن أفتى بشراء الأضحية عن طريق الاقتراض من البنك، أو ذاك الذي أفتى بإخراج الزكاة عن الحشيشة، فهؤلاء قطعا ليسوا من كبار العلماء الفقهاء الذين تطمئن النفس والأمة إلى علمهم وفقههم.

وصفوة الكلام أن الوزير أحمد توفيق، بإباحته الفوائد البنكية، قد خالف إجماع الأمة المتمثل في مجامعها الفقهية المعتبرة، وكبار العلماء المشهود لهم بالعلم والفقه في أمر قطعي، فيكون بذلك قد أساء وتعدى صلاحيته، ليجعل من نفسه مفتيا في أمر خطير وذي بال. والله المستعان.

يتبع..

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
12°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
20°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة