وقفات نقدية مع مشروع “تدبير الأموال المكتسبة أثناء الزواج وآثاره الاقتصادية والاجتماعية على المطلقات والأرامل: دراسة سوسيولوجية لمدينة سلا”
هوية بريس- د.محمد عوام
بداية أقرر أنه لا يمكنني إلا أن أرحب بأي بحث علمي، أو مشروع علمي جاد، مبني على معطيات دقيقة، وتحليل وتعليل عميق، إذ الأمم لا تتقدم إلا بالعلم والمعرفة المبنية على الأدلة الصائبة القوية، والاستدلال الصحيح، المبني على مقدمات تفضي إلى نتائجها، دون أي خلل أو اعتساف وشطط بفرض نتائج مسبقة يبحث لها عن مقدمات استدلالية مغلوطة سفسطائية، توهم المخاطب أنها صحيحة، لكنها عند التمحيص يلوح أنها من قبيل ما يسميه المناطقة الحجة السفسطائية أو حجة المغالطة، ولا يخفى أن الدليل إذا ركب تركيبا صحيحا، وأعمل بشكل علمي أنتج مدلوله، إذ ارتباط الدليل بمدلوله من البدهيات العقلية لزوما. صحيح أن هناك من ذهب إلى كون ذلك حاصل عن طريق العادة، أو التولد، أو التعليل. (انظر إعانة المُوفّق شرح السلم المُنورق في علم المنطق157، وضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة297).
مفارقة منهجية بين الراسخين والزائغين
وهنا يحضرني ما سطره إمام المقاصد الشاطبي رحمه الله، في بيان مفارقة منهجية عجيبة بين الراسخين من أهل العلم والزائغين، وهي ترجع تحديدا إلى ما سبق أن بسطت القول عنه من كيفية مأخذ الأدلة، ترجع إما إلى أخذها مأخذ الافتقار أو مأخذ الاستظهار، فالأول منهج الراسخين من أهل العلم، والثاني منهج الزائغين، الذين تنكبوا طريق الدليل والاستدلال، وفي ذلك يقول رحمه الله: “فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين: أحدهما: أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار، واقتباس ما تضمنه من الحكم، ليعرض عليه النازلة المفروضة، لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم… وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة. الثاني: أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، أن يظهر بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل، من غير تحر لقصد الشارع، بل المقصود منه تنـزيل الدليل على وفق غرضه. وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة.” (الموافقات 3/77،78).
هذه المقدمة ليست خاصة بعلوم الشريعة، كما قد يذهب إلى ذلك بعض ممن لم يفقه ذلك، وإنما هي متعلقة بكافة العلوم، فالعلوم وإن اختلفت تخصصاتها وتمايزت، فهي تشترك في خاصية معرفية، وهي بناؤها على الدليل والبرهان وطرق الاستدلال.
ثم إن هذه الدراسة، كما يقول أصحابها، أنجزت بالتعاون مع المكتب الخارجي للكومنوليث، الذي تمثله السفارة البريطانية بالرباط، بالمملكة المغربية، في إطار برنامج صندوق بريطانيا الدولي “تنمية القدرات التنظيمية لهيئات المجتمع المدني المرتكزة على البحث العلمي، المغرب، المعروف اختصارا برنامج دعم”. والمعروف أن الدعم لا يعطى من غير أن يكون منصبا في الأهداف التي يرمي إليها الصندوق، وكذلك من غير تقديم تصور أولي حول المشروع. وقد علق أحد العلماء على هذا المشروع بشيء من الطرفة حين سماه بالمشروع “البريطوموروكو”.
الوقفة الأولى: في المنهج والأولويات
من خلال قرائتي لهذه الدراسة تبين لي أن هناك خِلالا غشيت هذه الدراسة، في المنهج وفي تحديد الأولويات التي تكون خادمة للمرأة وآنية، بل تعيش ويلاتها وتسبب لها ضنكا في حياتها، وتعبا مبرحا لأسرتها، وأسوق ذلك فيما يلي:
في المنهج:
أولا: في ( بين يدي الدراسة) حدد الهدف المنشود منها، وهو ما عبرت عنه الأستاذة سمية بنخلدون بقولها: “إن هذه الدراسة التي تصدى لها منتدى الزهراء للمرأة المغربية لا تنطلق فقط من حاجة مجتمعية ملحة تسائل الفكر المغربي، بل تتوق إلى استثمار خلاصات هذه الدراسة ونتائجها لبلورة خط فكري ترافعي ذو طموح تشريعي، من شأنه أن يساهم في تطوير المنظومة القانونية الوطنية وتحقيق عدالة أرقى في تقاسم الثروة بين الرجل والمرأة عند حصول دواعي تقسيمها بينهما أو بين أحدهما ورثة الطرف الآخر.”
إذن نحن أمام دراسة ذات منحى ترافعي نضالي تشريعي، ولسنا أمام دراسة علمية سوسيولوجية تُقدم للعلماء والباحثين، ورجال القانون، لينظروا فيها، ويمحصوا نتائجها، ويدققوا في معطياتها واستبياناتها، فيراجعوا ما ينبغي مراجعته، ويقدموا ويؤخروا ويبدون ويعيدون. فلأول مرة أقرأ بحثا اجتماعيا من هذا القبيل، فهو من الناحية المنهجية، خروج عن السياق والبحث السوسيولوجي، إلى مجال الترافع والتشريع، بدل رصد الظاهرة المعنية، ونقل المعطيات المحتفة بها، ثم يمكن بعدها تحليل وتفكيك وسبر المعطيات، بالوقوف على عللها ومآلاتها. وهذا خلط منهجي عجيب، حين يتقمص البحث السوسيولوجي دور الترافع والتشريع، مما يطعن في مصداقية الحيادية والموضوعية في البحث نفسه، من حيث المقابلات التي أجريت هل فعلا كانت ذات مصداقية في وضع الأسئلة بموضوعية، أم وضعت بشكل توجيهي نحو النتائج التي يريد أن يصل إليها البحث “السوسيولوجي”.
ثانيا: يمكن أن نقبل بدراسة سوسيولوجية، ترصد ظاهرة في منطقة معينة، أو مدينة بعينها، كأن ندرس مثلا ظاهرة المخدرات في مدينة الرباط، أو البغاء في الدار البيضاء، فنكون بذلك قد حددنا موطن الدراسة، ومعنى هذا أن المشروع الذي يرمي إلى الترافع من أجل التشريع، يعتمد على بحث متعلق بمدينة سلا فقط؟ فالسؤال المنهجي العلمي هل يمكن المطالبة بإلغاء قانون أو المطالبة بتشريع بناء على عينة معينة في مكان محدود دون الاعتماد على المسح الشامل لكافة المدن والقرى والأرياف؟. فهل يجوز لنا علميا أن نسقط نتائج مدينة سلا على باقي المدن والقرى، ثم نسعى إلى وجود قانون يشمل الجميع؟. فهذا مكمن الخلل وموطن الزلل. فالقانون لا يوضع إلا مراعاة لمصالح الجميع، المصالح الحقيقية لا المصالح المتوهمة.
هذه المرافعة بناء على هذا الزلل المنهجي هو ما عبرت عنه الفقرة الآتية، حين طفقت تؤكد على التطور الذي حصل من خلال إدماج المرأة في سوق الشغل، والوظائف العامة، مما يفضي “ضرورة مراجعة المجال القانوني في مسألة تدبير الأموال المكتسبة مراجعة عميقة وشاملة، وخاصة فيما يتعلق بمفهوم المجهود المبذول في سبيل تنمية أموال الأسرة، بما يضمن أحقية المرأة في الاستفادة من الأموال المكتسبة أثناء قيام العلاقة الزوجية.”
بمعنى أن هذا المشروع الترافعي لا يقتصر على قضية المرأة المندمجة في سوق الشغل والوظائف العامة، وإنما يطمح إلى توسيع (مفهوم المجهود المبذول في سبيل تنمية أموال الأسرة)، وعينه أساسا على عمل الزوجة في بيت زوجها، يعني الخدمة البيتية أو المنزلية.
وصفوة القول أن القوانين لا تبنى على الأبحاث ذات البعد التجزيئي والعينات والمقابلات المنتقاة، لأنه دستوريا، فالقوانين قبل صياغتها، تبنى على معطيات دقيقة وشاملة، بما يجعل الناس أمامها متساويين. وهذه القضية تحتاج إلى تفصيل أكثر، ليس هذا موطنه.
ثالثا: الشأن في المقابلات في قضية بحثية، أن تكون مستوعبة لعدد لا بأس به من الآراء والاجتهادات، تسع عددا من الاختلافات ووجهات النظر، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستناد فيها إلى رأي واحد، والركون إليه، مهما كان لصاحبه من مكانة علمية سامية.
وهنا وقع أصحاب المشروع في خلل، لا يليق بهم، وهو نوع من التدليس، وذلك أنهم يوهمون القارئ أنهم اتصلوا بعدد من الخبراء، وقابلوهم “علماء الشريعة والمجالس العلمية والمؤسسات الدينية الرسمية” و”القضاة والمحامون والعدول” و”الحقوقيون والفاعلون في مجال الأسرة وقضايا المرأة” و”الأكاديميون” ولكنهم في الواقع لم يتصلوا إلا بفرد واحد في كل مجال، فهل يعقل هذا في بحث مثل هذا يروم الترافع والتشريع؟ فكيف عنّ لكم أن تقابلوا أستاذنا العلامة أحمد الريسوني، فتأخذون رأيه، لا ندري حتى الحيثيات التي تمت فيها المقابلة، والتي عادة ما تكون سريعة، ثم تحجمون عن الاتصال بعدد كبير من العلماء من أمثال العلامة مصطفى بنحمزة، والعلامة محمد الروكي، والعلامة مبارك جميل، والعلامة الحسين آيت سعيد، وغيرهم كثير من العلماء، حتى تتضح لكم الصورة.
وهذا ما جرى مثله في باقي المجالات، حيث يعتمد على رأي واحد فقط، وهذا خلل منهجي واضح، وبما أن القضية المبحوثة ذات بعد تشريعي شرعي وقانوني، تكييفا واستنباطا وتحقيقا لمناط الحكم، فهل يعقل الاعتماد فيها على رأي الفاعل أو الفاعلة الاجتماعية؟ فلا ريب أن فيه هذا المهيع فيه نظر، أذهبتم النجعة وأغرقتم في النزع.
هذه بعض الملحوظات المنهجية التي بدت لي، وإلا كان على أصحاب البحث أن يقوموا ببحث يجمع بين الزوجين معا، باعتبارهما يشكلان أسرة، ويسألانهما عن كيفية تدبير أموال الأسرة، أو على الأقل أن يكون هناك بحث مواز للرجال، ثم يعقب ذلك المقارنة للمعطيات حتى تتضح الصورة.
في الأولويات
هل يشكل هذا البحث ذو المنحى “الترافعي التشريعي” كما يدعي أصحابه أولوية بالنسبة لحقوق المرأة؟ أم أنه يؤسس لعلاقة أسرية مبنية على الصراع والصدام والتوتر حين يكون كل من الزوجين حريصا على تحقيق مبدأ الحقوق، أو تحكمه عقلية الحقوق حتى فيما جرى به العرف بدل من مبدأ المودة والرحمة؟ وهل المدخل لمعالجة الاختلالات الأسرية التركيز على الحصول على الحقوق أم أن المدخل هو تعميق القيم التربوية والإيمانية والأخلاقية؟
الذي يظهر لي، وأومن به أن كثيرا من المشاكل التي تتخبط فيها الأسر، أو قضية المرأة ترجع من غير منازع إلى الضعف العقدي والتربوي والأخلاقي، وعنه تنتج كافة المشاكل. من هنا أقول إن ميزان الأولويات يقتضي تقديم مجموعة من حقوق المرأة، والنضال من أجلها، وهي آكد مما يحوم حوله هذا المشروع وقد سبق لي أن ذكرت بعضها في مقال لي تحت عنوان (الكفاءة أم المناصفة)، وأعيد ذكرها هنا مع بعض الزيادات، وهي:
• ينبغي أن تتمتع المرأة بالزيادة في العطل، بحيث تمنح خاصة في الأعياد الدينية قبل العطلة الرسمية أياما وبعدها، نظرا لما تكون عليها المرأة من الاهتمام بالأعياد الدينية ذات الطابع الاجتماعي.
• تقليص مدة عمل المرأة، لأن لها أعمالا منزلية أخرى ذات أهمية في الحياة الاجتماعية، فيحتسب لها العمل المنزلي.
• أن تتمتع المرأة بسنة كاملة عند الولادة، حتى تستريح وتعنى بوليدها، ولا تتركه من الشهور الثلاثة الأولى في رياض الأطفال، وهي مشغولة البال حائرة مضطربة.
• حفظ كرامة المرأة والدفاع عن هذه الكرامة من الامتهان، وذلك بمحاربة جميع أشكال الدعارة والمتاجرة بعرض المرأة في الإعلام والإشهار، فينبغي سن قوانين تجرم ذلك.
• حق العدة للمتوفى عنها زوجها كاملة كما نصت عليه الشريعة، ولا تلتحق بعملها بعد ثلاثة أيام من وفاة زوجها.
• حفظ مال الزوجة الموظفة عند وفاتها حتى يبقى لورثتها منهم الزوج. فبأي حق يحرم الزوج من معاش زوجته بعد وفاتها؟
• أن تمتع المرأة بثلاثة أيام عطلة من كل شهر، حفظا على نفسيتها وانوثتها، لا سيما عند الحيض الذي تصحبه توترات نفسية.
إذا أخذنا في التنقيب والتفتيش بناء على فقه الأولويات والموازنات، فيمكن القول إن البحث عن احتساب العمل المنزلي من بين الأموال المكتسبة لبيت الزوجية ليس ذي بال، ولا يشكل عائقا للمرأة، مثل ما تشكلها قضايا أخرى تطحنها طحنا. وهذا الذي غفلت عنه الدراسة، وارتمت في أحضان التبعية “العلمانية” التي تهدف إلى خلق الصراع الأسري، الذي ينتج عنه عدم الاستقرار. نعم أن هؤلاء الفضلاء نيتهم حسنة ولا يقصدون إلى هذا، ولكنهم أخطأوا طريق الحق، فليس كل من ينشد حقا، يحسن استعمال وسائله.
يتبع إن شاء الله