أحيانا كثيرة… وخاصة عند حلول الفتن ودخول أتونها، تجدنا بعمد أو غيره نواجه الاستثناء بغير ذاكرة تاريخية، ولا عقل حكيم يتدبر الأزمة ويمسك بتلابيب تفلتها، بل نسجل بكل أسف تواري عنصر القدوة وتخلف أهل الصلاح وإمساكهم دون سلك مسلك المساعي الحميدة، مع علمهم أن لعنة الفتن إذا نزلت عمت من في الوطن واستوعبت منه الأخضر واليابس، وأتلفت الضرع وأحرقت الزرع…
يتخلف أهل الصلاح من ذوي الشأن وورثة طيب الوحي وتركة الخير، بينما تتصدر جماعة الرويبضة معالجة الأمور وقيادة الحراك والفزع بالأمور مفزع التمرد والانقلاب على كثير من المكتسبات، هذه المكتسبات ولو كانت غير كافية، وإن لم تصل السقف المطلوب غير أن أحدا لا يمكنه أن ينكر حقيقة وصفها وأنها مكتسبات جاءت وتحصلت بعد طول مجاهدة وكبير تضحيات.
ولا شك أن المقاصد والرسالات الإنسانية تظلم بأمثال هؤلاء، بل وتسيل دماء الأبرياء في ساحات الظلم والاعتداء، ومنسك حرص الدولة على حفظ هيبة كيانها ولو بفرط عدل وإفراط حزم، يحجب عطفها مستشرف رجحان هذه المصلحة على متوقع المفاسد مهما بلغ حجمها، إذ أن المنطق الذي يسود أو يجب أن يسود وقتها بضابط الحكمة لا العاطفة هو منطق تلخصه مُثلة لطالما لاكها الأجداد ورددها الآباء وتذوق الحاجة إلى محسوسها الأبناء، إنها المُثلة التي مفادها قول القائل بلسان الحال لا المقال “اللهم قائد سايب ولا قبيلة سايبة”.
ولنخرج ابتداء من المزايدات واستعمالها في أضيق الحسابات، مصرحين في غير مجاملة أو استلطاف، أن المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي قد أفضى إلى ما قدم بين يدي ربه جل جلاله، ولا أرى كما غيري إلا أنه أدى رسالته بكل أمانة وجاهد في الله حق جهاده، بل استطاع رحمه الله أن يفطم النفوس المترفة عن مألوف الظلم واستمراء الظُلمة ومهادنة الباطل باطل الشرك والأوهام، بل ثبت كالجبل الأشم في وجه عسف المستعمر الإسباني وعبث الصائل الفرنسي، وقد وقع له ما يقع عادة ومتوقعا لغيره من المصلحين عندما يفكرون بعزم وجد وإقدام في الوقوف أمام سيل الظلم وغطرسة التكالب.
وكل هذا لا ينكره إلا جاحد مرتمٍ في أحضان بقايا الاستعمار القديم وأطلال أفكاره العائدة المتجددة في تخوين طافح باتهام تضحيات أسلافنا من المغاربة الأحرار، وكل هذا لا يجب أن ننحني لحقيقته إلا بما جاء وولد غير منفك عنه ولا متغافل عن لازمه، ذلك أن المجاهد الخطابي اسطاع أن يذيب ويغرق نعرة القومية والعرق في بحر الهوية والانتساب إلى هذا الدين العظيم.
بل أولى رحمه الله كامل الاهتمام والرعاية بلغة الضاد ونافح على أن تكون لها الكلمة والامتياز والغلبة على حساب التحجير على لسان المستعمر الصائل ولغته، بل لم يُخفي هو كما لم يخفى على الذين كانوا معه أو حتى البعيدين عنه من المخالفين والمناهضين والمحاربين له حقيقة سنيته ومشرب جهاده ذي الطابع الإسلامي المحض، وأنه الحافظ لكتاب الله المتمكن من الحديث والفقه الإسلامي وعلوم اللغة العربية…
فلم يذكر التاريخ حتى بين ثنايا صفحات وتراث المؤرخين من المصنفين في شق العداء، أن الرجل كان قاطع طريق أو رئيس عصابة من الملثمين، الذين تأبطوا مشروع شرورهم للإفساد في الأرض وبث اللصوصية في أرجاء الآمنين المطمئنين، بل سجل التاريخ بمداد من فخر وعز وسؤدد بطولات الرجل الذي وقع مسيرة حياته بأمنيته الغالية حيث قال: “إني آمل أن تستفيد أمتي من تجربتي”، وقد كان من تجربته أن خيّب آمال القائد الإسباني الذي قال مستهزئا: “سأشرب الشاي في بيت الخطابي”.
إنها التجربة التي أعطت السمو والتفوق والغلبة لقوة الحضارة على حساب مغلوبية وأفول وتهافت حضارة القوة، وإن سأل أحدهم عن كنه هذه الحضارة وماهيتها، أجبناه من موروث كلام هذا المجاهد، وهو يسطر بحبر من ذهب في البند الأول من البنود التأسيسية للجنة “المغرب الإسلامي” التي تشرفت برئاسته لها: “المغرب بالإسلام كان وللإسلام عاش وعلى الإسلام سيسير في حياته المستقبلية”.
وأجمل بها من كلمة شهد بها المؤرخ المصري الكبير محمود شاكر في حق هذا الطود العظيم حينما قال: “فهذا البطل الذي نشأنا منذ الصغر ونحن نمجد اسمه، ونسمو بأبصارنا إليه، ونحوطه بقلوبنا وإيماننا، ونجعله المثل الأعلى للعربي الأبي الذي لا يقبل ضيما ولا يقيم على هوان، هو نفسه الذي علمنا بفعله لا بلسانه أنه “لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال”.
ولست أدري كيف يغيب هذا التاريخ عن الوجدان ولا يستحضر في مقام رد العدوان وحفظ تراص البنيان، كما ليس يدري كيف ينخدع جيل الخلف بتصدية ومكاء الغرب المتشدق بالحقوق والراعي لحركات الانفصال، والتطبيل لها باسم أحقية الشعوب الأصيلة في تقرير المصير في محافله متى ما اجتمع وكان موضوع اجتماعه بحث سبل أكلنا وهضمنا…
وهو من هو؟ خديج أوربا الهمجية التي استخدمت الغازات السامة ضد العزل من الأطفال والحرائر، ذلك الاستخدام الذي لا زال أبناء وطننا في الشمال يعانون من مخلفاته ويقدمون له القرابين من مرضى السرطان، في ظل شح الأدوية وتغافل المسؤولين عن مسيس الحاجة وفقدانهم لبوصلة تحديد أولى الأولويات من مثل تشييد المراكز الاستشفائية والقيام بواجب التطبيب…
إن مطالب أبناء الريف المغربي اليوم لا عجيب فيها ولا غريب، إن هي بقيت مطالب تقرأ في سياق الحاجة بين متبادل الحق والواجب الوطني، ولعلها الحاجة التي يطرد المسيس ويستوعب الخصاص إليها أو يكاد جهات المغرب الأربع، إذ لا ينكر أحد ولا يستطيع أن يواري حقيقة أن المغاربة جلهم يعانون من غلاء الكلفة المعيشية، كما تصطف طوابيرهم الضاربة الطول والعرض في أروقة المستشفيات العمومية بدء من العاصمة الإدارية، وعطفا بأختها الاقتصادية، ومرورا بكبريات المدن السياحية، كما تبقى البطالة وشما معلقا على جبين غالبية الأسر المغربية، وهي ولا شك مأساة اجتماعية يشترك فيها المغرب مع كبريات الدول المتقدمة مع امتياز فارق لهذه الأخيرة.
ولو شئنا وكان المنّ مقبولا مستطابا، لجاء حق البوح وباتت الشكوى من حق أبناء وسط المغرب لا من غيره، إذ هو الوسط الذي أعطى ولا يزال يعطي دون أن يرفع أهله من عقيرة الاستدراك، وكلنا يعلم حجم الجود والكرم الحاتمي الذي تحظى به مناطق الجنوب العزيز.
كما يعلم الجميع حجم الضرب صفحا من السلطات المغربية في مقابل ما يشهده الميزان التجاري للشمال المغربي من جنوح وميلان طائش صوب الوارد الإسباني المهرب، وما تشهده هذه السوق السوداء من تجاوزات ينتفع بها مستعمر الأمس، ولو شئنا لقلنا مذكرين ولا منّ بما ينتجه الوسط المغربي من بقل الأرض وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، وما تذروه الرياح من حب قمحها وذرتها، وربما لم نكن في حاجة إلى التذكير بالوافد من منتوج الجبال هناك مما لا تخفى خافية ركسه عن البعيد قبل القريب…
إن الغريب العجيب في حراك المغاربة من أبناء منطقة الريف العزيزة اليوم، هو أن يتقدم بين يدي هذه المطالب الاجتماعية المعقولة الإرث العرقي في منزعه النعراتي، تحت طائلة الإقرار بالمظلومية التاريخية، وتهمة التطفيف في التعاطي مع قضايا السكان هناك في شمال المغرب، بزعم أنهم مواطنون من الدرجة الثانية على اعتبار، أو بالنظر إلى عرقهم وخصوصيتهم المكانية، ولا شك أن هذا النوع من التقدم بين يدي هذه المطالب الطبيعية هو أمر واقع سواء أقر به المحتجون أو أنكروه تقية، أو دغدغة لدواخل النسيج البشري المكوّن للكل المغربي، مراهنة منهم على اتسعاع رقعة الاحتجاج وامتدادها، ورجاء تسلل عدوى “الخروج” -إن سلمت العبارة- إلى باقي مناطق المغرب المأهولة لا قدر الله.
ويبقى أن نقول: أنه سواء اقتنع الناس بما سقناه من كلام بين يدي هذه الوقفة التأملية، التي حاولنا قدر الإمكان إسباغ سطورها بطابع التجرد والإنصاف، أم لم يقتنعوا، فإن ثمة مصلحة مشتركة تجمع الكل وهي مصلحة لا يجرؤ مواطن على إنكار خطر المساس بها، تلك هي مصلحة الحفاظ على سيادة البلد، وحماية حدوده من عبث التقطيع والتجزيء، وتمزيق الشمل، ومن ثم تقديم بيضة الوطن وحرمة كيانه هدية للمتربصين من الداخل والخارج، ليكرروا عين ما فعله أسلافهم الغزاة من إبادة للأجداد ولصوصية طال بطشها خيرات البر والبحر والجبل الظاهرة والباطنة…
كما أن ثمة سقف من المطالب يجب على الدولة أن ترعاه، وتسعى جاهدة في تحقيق وبناء صرحه على قواعد من الإخاء والسماحة والعدل والمساواة، إذ أنه لا يعقل في وطن لا يزال يعمل بمنطق مركزية التطبيب والتعليم وربما القضاء، أن تغدق فيه الأموال وتصرف فيه العملات الصعبة بفرط سخاء على ضيوف المهرجانات المستوعبة لكل الوطن من المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات من الأجانب والأجنبيات…