ولاية “العلم” و”الخطابة” والوعظ” وصلتها بالتدبير الديني
هوية بريس – ميمون نكاز
ولاية العلم والخطابة والوعظ “ولاية شرعية محضة” في أصل وجودها واعتبارها، فالعالم ولاه الشارع الحكيم ولاية “البيان والبلاغ والدعوة والاحتساب بالعلم”، كذلك الخطيب والواعظ، وكلاهما يشترط فيهما قدر من العلم والمعرفة مما يقتضيه منصبهما، يسمى “أهلية”، كلهم ناطقون – بالتكليف الشرعي الأولي- باسم الشرع، أي بما يقتضيه الشرع منهم في المحل والحال والظرف، يتكلمون باسم الشرع وبمرجعيته بيانا وبلاغا وتزكية، هذا هو أصل التكليف، كانوا موصولين بهيئة أو مؤسسة أو وزارة أسند إليها أمر “تدبير الشأن الديني”، أم كانوا مستقلين غير موصولين، ذلك هو الأصل، وتبقى الصلة المباشرة وغير المباشرة بالقائمين “أولي الأمر” على “الشأن الديني المؤسسي الرسمي” دائرة في إطار هذا الأصل، هو الحَكَمُ الفصل فيها، يُرجَع إليه عند التنازع والاختلاف، بسند “الولاء لله ورسوله” أصالة وأصلا، والولاء لأولي الأمر عرضا وفرعا، ما دامت الصلة جارية على سنن الشرع وأحكامه، والأصل الحكمي الكلي في هذا الشأن وغيره ما جاء في الوحي الشريف من قوله تعالى:{یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡءࣲ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ ذَ ٰلِكَ خَیۡر وَأَحۡسَنُ تَأۡوِیلًا﴾ [النساء:59].
في الدلالة الصريحة للآية الكريمة المنازعة- بمعنى الاختلاف وعدم التوافق- بين المؤمنين عامتهم وخاصتهم واردة قد تقع، والفرض التكليفي وجوب الرد إلى الله ورسوله، أي لحاكمية الشرع وسلطانه،{ذلك خير وأحسن تأويلا}، وطاعة “أولي الأمر” في جميع مراتب “الولايات الأمرية” ومستوياتها محكومة بهذا القيد والشرط، والمثير في الآية الشريفة أنها أوجبت الرد لله ورسوله (أي لما يقتضيه الشرع) في أي “شيء” وقع فيه التنازع والاختلاف، {فإن تنازعتم في”شيء”}، وذلك حتى لا يتسع الخرق ويعظم الخلاف ويشتد الشقاق…
نعلم أن كثيرا من القضايا والشؤون الدينية اجتهادية، مسارح الفهم والتأويل والتقدير والتدبير فيها واسعة مظنونة، يقتضي السماحة والتغافر فيها، وذلك ليعلم أن الرد فيها إلى الشرع لن يحسم المنازعة المسالمة، ولن يرفع الخلاف القائم فيها، فالواجب حفظ حدود المنازعة والاختلاف بحدود الشرع لا بحدود غيره…
في هذا الإطار -وقولا في الجدل الدائر حول خطة تسديد التبليغ- أحب تسجيل الملاحظات التالية:
أولا: تسديد التدين إيمانا وعلما وعملا ينبغي أن يكون مرجعه وموئله إلى الدين نفسه، وأن يكون الاجتهاد فيه علما وعملا خالصا لله تعالى متحيزا للشرع من حيث الولاء الأصلي، غير متحرف لولاء غيره ممن تناقض مقاصدُه وأغراضُه مقاصدَ الشارع الحكيم، ممن يهدف إلى محاصرة الدين والتضييق على أهل العلم والدعوة والبلاغ والتحكم الوظيفي في أنماط التدين، خدمة لخطط ومشاريع تبتغي تحشير الدين والعلم والعلماء في “زاوية مظلمة من العمل الديني المحدود” تخرج الدين والعلم والعلماء -والعامة تبع لهم- من “أنوار التدافع بين الحق والباطل” الجارية في خاصة الأمة وعامتها، الأمر الذي يؤدي إلى “علمنة الدين والعلم” في المسجد وعلى المنبر، وبالقصد التبعي إلى علمنتهما في الاجتماع السياسي، حيث يجري فصلهما وتغريبهما عن قضايا الأمة وهمومها وتحديات الواقع وإشكالاته، وقصر وظائفهما على “معرفة دينية مخصوصة مقصودة” وعلى “تزكية روحية وأخلاقية عملية محدودة”… وتبقى حبال الوصل والوصال-حتى في هذه الدائرة التضييقية- ممدودة بحق وصدق -حرصا على التعاون على بعض الحق والخير- شريطة الاحتفاظ باستقلالية العلم وحرية البيان والبلاغ والعمل الدعوي العام…
ثانيا: ما قررناه من قبل متعلقا بخطة تسديد التبليغ خاصا بتوحيد الخطبة، سواء كان بخطب منصوصة يلزم بها الخطيب كما هي الدعوى في أغراض التسديد عند المعترضين على المشروع في خطته، والتي ستكشف عن صدقها أو كذبها البينات في الواقع، أم كان عبر وساطة المجالس والمرشدين بشكل غير مباشر عبر خطب من الجهات المختصة، يطلب الالتزام بمقتضياتها من خلال “الشرح والتفصيل” في المساجد في دروس العلم والوعظ، مع المطالبة الملزمة بالتنزيل في الخطب والمنابر، كل ذلك إن وقع على هذا النحو فهو مردود يُنازَع بالحسنى في “شَيْئِه”، لكونه يصادر حق العالم والخطيب في “استقلالية عمله الشرعي” و”حريته التكليفية المسؤولة في البيان والبلاغ”…
ثالثا: أعتقد -يقينا- أن إشكالات التدين العلمي والعملي مردها إلى “إشكالية أهلية التديين” لدى أهل العلم والخطباء والوعاظ، وهنا أقدر أن بعض المنتصبين للتعليم والوعظ والإرشاد والخطابة أحق بالإعفاء إن لم يُتداركوا بالتأهيل والتكوين، لافتقارهم إلى “الأهلية المقتدرة”، يؤهلون إن كانوا قابلين للتأهيل، أو يعفون من مهامهم بالحسنى، وذلك لجلالة المهام التي يقومون بها، ولا محاباة في هذا الأمر…كما أقدر أن المغرب ولله الحمد حافل بأهل العلم والمعرفة والصلاح ممن يزيدون على “الأهلية” ولا ينقصون، بل أهليتهم مضاعفة ظاهرة في المجتمع، أقول: هؤلاء يجب الاحتفاء بهم، والتمكين لهم دينا ومصلحة وطنية متبصرة، لما في ذلك من الخير والإنصاف والمصلحة، إن كنا صادقين في “تسديد التبليغ” وفق مرادات الشرع الحنيف…
رابعا: الدين كلي فوقي يعلو ولا يُعلى عليه، يُرجَعُ إليه لِيَحْكُم، ولا يُرْجَعُ به لِيُحْكَم، هو أفق الأمة وقبلتها، و الشرط في تسديد التدين وترشيده أن يكون مشدودا إلى أصله، موصولا بأفقه وقبلته، وكل تسديد للتدين يبتغي عزل المسلم عن “سعة الدين في آفاقه” أو فصله بالتجزئة الدينية القطرية عن الأمة في روحيتها التزكوية العامة، وفي قضاياها وهمومها الحيوية، هو في نظرنا تسديد وظيفي يعمل على “قرطسة الدين ” و”تعضية التدين”، وذلك من الصنائع الدينية المذمومة التي عابها الوحي الشريف على أهل الكتاب في قوله: {﴿وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦۤ إِذۡ قَالُوا۟ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَر مِّن شَیۡء قُلۡ مَنۡ أَنزَلَ ٱلۡكِتَـٰبَ ٱلَّذِی جَاۤءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورا وَهُدى لِّلنَّاسِۖ “تَجۡعَلُونَهُۥ قَرَاطِیسَ تُبۡدُونَهَا وَتُخۡفُونَ كَثِیراۖ”} [الأنعام91]… حيث تبدو عملية القرطسة في إبداء قراطيس من الكتاب وإخفاء أخرى، عبثا بالدين أو توظيفا له، لخدمة أغراض لا صلة لها بحقيقة الدين ولا بمطالب التديين…