وماذا عن المؤامرات الداخلية؟
هوية بريس – الصادق بنعلال
يتضمن مشهد فرار رئيس سوريا السابق بشار الأسد نحو العالم الذي “يتآمر على الوطن العربي”، وهو يحمل معه حقائب الأموال الرهيبة من “شعبه العظيم”، دلالات وأبعاد أقلها أن الزعيم العربي عموما، بعد سنين من النضال من أجل التصدي ومقاومة الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان.. يكون على أهبة للقفز من “السفينة”، والسعي للنجاة من الموت المحقق، ضاربا عُرض الحائط بشعارات ومبادئ المواجهة والوحدة والتنمية الشاملة”!
أ – من تحصيل الحاصل القول إن نظرية المؤامرة تشكل مكونا بنيويا في نسق الفكر السياسي الكوني، كما أنها ترتبط بالوجود الإنساني في مختلف الحقب التاريخية. وغني عن البيان الإشارة إلى أن العرب – في العصر الحديث تحديدا – كانوا بحق ضحايا المؤامرات الأجنبية؛ ولعل اتفاقية سايس بيكو في مستهل القرن العشرين أتاحت للغرب إمكانية تفتيت العالم العربي، وزرع إسرائيل في قلبه من أجل الحيلولة أن تقوم للعرب قائمة.. لا بل قد نتفهم من يذهب إلى أن حراك الشارع العربي الراهن ابتداء من 2011 هو وليد مخططات أمريكية وإسرائيلية وأطراف عربية، من أجل خلق واقع سياسي مختلف يهيئ لمواجهة ” قادمة ” بين عرب السنة والنظام الإيراني. غير ان إيماننا بهذه المسلمات ” البديهية ” شيء، وتعليق خطايانا ومسلكياتنا الدراماتيكية على مشجب ” المؤامرة ” الخارجية شيء آخر.
ب – فمهما كان وقع المؤامرات الأجنبية ومفعولها، لا يمكن أن تلحق أي ضرر إذا كانت الجبهة الداخلية محصنة على الوجه الأمثل. وهذا لعمري لم يحصل في جل الأقطار العربية ” الرجعية ” منها و ” التقدمية”. لقد كان الأمل معقودا على ما بعد ” استقلال ” الدول العربية، إثر تضحيات جسام ومعارك رجولية وضعت حدا للاحتلال الأجنبي طيلة النصف الأول من القرن الماضي، بيد أن المسار الذي اتخذه الواقع العربي كان مناقضا لتطلعات الشعوب وأحلامها في الاستقلال والوحدة والتقدم. حيث انقسمت الدول العربية إلى محورين اثنين: محور المعسكر الشرقي” المدافع” عن الوحدة والاشتراكية والقضاء على إسرائيل في إطار جبهة ” الصمود والتحدي”، ومحور المعسكر الغربي ” المدافع ” عن الديمقراطية والرأسمالية والقيم الليبرالية، وقد تجسد هذا المعطى التاريخي في سياق ما سمي بالحرب الباردة. وبعد عملية حشو مريعة لعقول صغار المواطنين وكبارهم بالعناوين الطنانة والشعارات الجوفاء والقمم “المنحدرة”، تكتشف الشعوب العربية أنه غرر بها من قبل زعمائها ” أصحاب الجلالة والفخامة والسمو.
ج – لقد مرت سبعة عقود أو ما يزيد على “خروج” الاستعمار الأوروبي ليتيقن الشعب العربي أن حكامه كانوا فعلا في ميدان ” التصدي والمواجهة”: تصديهم لشعوبهم وأحلامهم بالعيش الكريم ومواجهة كل من سولت له نفسه أن يطالب بحقه في التعبير والعمل والسكن والأمن.. وظلت خيرات العالم العربي الكبير تحت الأرض وفوقها من نصيب الأسر الحاكمة المتحكمة، تلك الأسر التي مارست مختلف أنواع التنكيل والتعذيب والترهيب في حق شعب ذنبه الوحيد أنه لا ذنب له. والآن (منذ انطلاق ما سمي بالربيع العربي 2011 إلى الآن 2024)، وبعد أن دقت ساعة الحقيقة، وبفضل ثورة تكنولوجيا الاتصالات وثورة المعلوميات، وانتشار الخبر وسهولة التواصل، واليقين المطلق بأن ” الحكام ” العرب عاجزون عن تحقيق ما وعدوا به ليلة قبضهم على كرسي الزعامة، بعد الانقلابات العسكرية ومجيئهم فوق ظهر الدبابة في الغالب الأعم، نهض الشارع العربي بغض النظر عن العوامل الجيوستراتيجية المصاحبة، من أجل استرجاع حقوقه المغتصبة من قبل الحكام المتآمرين؛ والذين أبانوا عن تحكمهم ونزعتهم القمعية و استماتتهم في الدفاع عن أنفسهم بشتى وسائل الترهيب البوليسي والعسكري. وما وقع في ليبيا “ملك ملوك إفريقيا” واليمن غير السعيد وسورية “الأسد” على شعبه فقط، دليل ناصع على بشاعة المؤامرة الداخلية.
د – أليس من حق الشعوب التي جردت من أبسط الحقوق المادية والمعنوية أن تصرخ؟ أليس من حقها أن تدق باب ” الصهريج “؟ ثم ألم يكن أمام هؤلاء ” الزعماء ” المجانين أي حل آخر سوى إراقة الدماء وتدمير المعبد بمن فيه؟ هل حدث في تاريخ البشرية قديما وحديثا أن “خاطب” رئيس “شعبه” وهو يقهقه وينفجر ضحكا (بشار الأسد) غير المأسوف عليه، في اللحظة التي يسبح فيها المتظاهرون السلميون في دمائهم وتحت وابل الرصاص الحي؟ لقد آن الأوان لوضع “نظرية المؤامرة الأجنبية” جانبا، من أجل التعاطي مع المؤامرة الداخلية؛ مؤامرة الإبقاء على قانون الطوارئ ورفض التعددية الحزبية وقمع الحريات الإعلامية وتقوية جهاز المخابرات.. إننا لا نطلب أكثر مما تتمتع به الشعوب التي تستحق هذا الاسم؛ نظام سياسي ديمقراطي عصري، يقوم على ما قدمته البشرية من اجتهادات و مواثيق وقرارات ملزمة، وتوزيع عادل للثروة ومراقبة ومحاسبة الحاكم والمحكوم على حد سواء، فهل سيستجيب زعماؤنا ” المبجلون ” لمطالب الشعب الملحة والمنسجمة ومنطق العصر؟ أم أنهم سيخلفون الميعاد كدأبهم على ذلك، ويخطئون قراءة التاريخ، ويرحبون «بالمواجهة اذا فرضت”حسب تعبير الرئيس السوري ” الضاحك “، الذي عاث في الأرض حريقا ودمارا وتهجيرا، و فر تاركا وراءه “جمل” البلد وما حمل من آلام ومآسي بلا نظير؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إطار تربوي – باحث في قضايا الفكر والسياسة