يا لجمال وروعة الأدب..
هوية بريس – دة.صفية الودغيري
حين يرتقي بالإنسان في الأقوال والأفعال، فتصير أقواله أفعالاً تُرى وتُسمع، وتُشاهَد رَأْيَ العين والبصر والبصيرة في المواقف وما ينزل من النَّوازل، وما يجري من الأحداث، في السَّراء والضَّراء، واليَسار والإِعْسار، والرَّخاء والشِّدة، وفي سائر سلوكه، وما يظهر عليه ويخفيه عن النّاس، وما يصدر عنه من تصرُّفات ومعاملات ..
فيسمو إلى مراتب التَّباهي والافتخار بمكارم أخلاقه وحُسْن خِلاله، وسمته الحسن، وتحَلّيه بروعة الجمال والذَّوق في كلّ شؤونه وأحواله ..
ويسمو في منطقه وكلامه، وفي خلافه ونقده واستدراكه، وموافقته ومعارضته، وفي نصحه ووعظه وإرشاده ..
فيترفَّع عن الشَّطَط واللَّغَط، وعن الغضب والتعصُّب للهوى والرّأي والمذهب، ويحذر الوقوع في انتهاك الحرمات والأعراض، أو التَّجريح والفجور في الخصام ..
ويصون شرف وعرض وكرامة أخيه، فلا يوقعه في شماتة الشّامتين ولا الأعداء والطّامعين ..
فتارةً يُحَلّي لسانه بالصَّمت حكمةً ورشادًا ورجاحة عقل ..
وتارةً بالصَّبر والجَلَد على من يشتكي منه أو إليه، أو من يُغالي ويشتدُّ عليه في جداله ونقاشه وعتابه، وتقويمه والحكم عليه، أو من يغلظ له القول ويتحامل عليه بلسانه السَّليط البذيء، إلى حدِّ التَّطاول عليه بالقول والفعل، وانتهاك كرامته والإساءة إليه ..
ويجتهد لِيَسْلَمَ النَّاس من لسانه ويده، فلا يجهل عليهم، وإِنْ جَهِلوا عليه التزم الإنصاف والحِلْم، والصَّفح والعفو ..
ويَكْظِمُ غيظه ويتجنَّب ما يَقْبُح فعله ولا يَحْسُن قوله وإنْ ظُلِم أو بُغِيَ عليه، ابتغاء مرضاة رَبِّه، وطلبًا للرِّفعة من اللَّه لا من المخلوقين ..
وتارةً يتحلّى بالقول الجميل والمنطق الحسن، ويؤثر الكلمة الطيِّبة الجميلة الآسرة للقلب على ما دونها في كلِّ مجلسٍ أو لقاء وحيثما حلَّ ونزَل، فينثر من لسانه الرَّوائح الزَّكيّة، تنتشي عطرها وعودها ومسكها وبخورها القلوب، فتطرب لها سعادةً وفرحًا واغتباطًا ..
يقول الشافعي:
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم … إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف … وفيه أيضًا لصون العرض إصلاح
أما ترى الأُُسُد تُخْشَى وهي صامتة؟ … والكلب يخسى لعمري وهو نبَّاح
وما أروع هذا الأدب حين يُصاغ صياغة فريدة، وتُنظم كلماته نظم اللُّؤلؤ والجُمان، ويُطرَّز بخرزٍ مُلوّن تَتوشَّح به العقول والأذهان، ومن هذا العقد الفريد اخترت ما قاله وطرّزه
أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي (المتوفى: 360هـ) في كتابه: ” أخلاق أهل القرآن ” :
( يَنْبَغِي لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ , مِمَّنْ لَمْ يُحَمَّلْهُ , وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ اللَّهِ وَخَاصَّتِهِ، وَمِمَّنْ وَعَدَهُ اللَّهُ مِنَ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ …
أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعًا لِقَلْبِهِ يَعْمُرُ بِهِ مَا خَرِبَ مِنْ قَلْبِهِ، يَتَأَدَّبُ بِآدَابِ الْقُرْآنِ، وَيَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقٍ شَرِيفَةٍ تَبِينُ بِهِ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ، مِمَّنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ: فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ تَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، بِاسْتِعْمَالِ الْوَرَعِ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ وَمَسْكَنِهِ، بَصِيرًا بِزَمَانِهِ وَفَسَادِ أَهْلِهِ، فَهُوَ يَحْذَرُهُمْ عَلَى دِينِهِ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، مَهْمُومًا بِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمَرِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ، مُمَيِّزًا لَكَلَامِهِ، إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْمٍ إِذَا رَأَى الْكَلَامَ صَوَابًا، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِعِلْمٍ إِذَا كَانَ السُّكُوتُ صَوَابًا، قَلِيلُ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، يَخَافُ مِنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَخَافُ عَدُوَّهُ، يَحْبِسُ لِسَانَهُ كَحَبْسِهِ لِعَدُوِّهِ؛ لِيَأْمَنَ شَرَّهُ وَشَرَّ عَاقِبَتِهِ، قَلِيلُ الضَّحِكِ مِمَّا يَضْحَكُ مِنْهُ النَّاسُ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الضَّحِكِ، إِنْ سُرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُوَافِقُ الْحَقَّ تَبَسَّمَ، يَكْرَهُ الْمِزَاحَ خَوْفًا مِنَ اللَّعِبِ، فَإِنْ مَزَحَ قَالَ حَقًّا، بَاسِطُ الْوَجْهِ، طَيِّبُ الْكَلَامِ، لَا يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِمَا فِيهِ، فَكَيْفَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؟ يُحَذِّرُ نَفْسَهُ أَنْ تُغْلَبَ عَلَى مَا تَهْوَى مِمَّا يُسْخِطُ مَوْلَاهُ، لَا يَغْتَابُ أَحَدًا، وَلَا يَحْقِرُ أَحَدًا، وَلَا يَسُبُّ أَحَدًا، وَلَا يَشْمَتُ بِمُصِيبِهِ , وَلَا يَبْغِي عَلَى أَحَدٍ , وَلَا يَحْسُدُهُ، وَلَا يُسِيءُ الظَّنَّ بِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ يَحْسُدُ بِعِلْمٍ، وَيَظُنُّ بِعِلْمٍ , وَيَتَكَلَّمُ بِمَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ عَيْبٍ بِعِلْمٍ، وَيَسْكُتُ عَنْ حَقِيقَةِ مَا فِيهِ بِعِلْمٍ، وَقَدْ جَعَلَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَالْفِقْهَ دَلَيْلَهُ إِلَى كُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ …) . (1/77).