يوم أسعفتني قراءتي عن أم القضايا
هوية بريس – الحبيب عكي
من ذكرياته مع القضية الفلسطينية التي انخرط في نصرتها وحمل همها منذ سن مبكرة ولعقود وعقود، حدثني صاحبي عن محاضرة ساخنة كان قد حضرها في الثمانينات في إحدى دور الشباب بالمدينة، وكان السيد المحاضر على ما يبدو “يساريا”، لم يدخر جهدا في أن يبين أن القضية قومية صرفة، وأن من ينظر إليها غير ذلك فهو من الرجعيين الظلاميين ومن النظاميين الامبرياليين، وهم يسيؤون إلى القضية أكثر من البربريين الصهاينة أنفسهم؟؟. صال وجال في دفوعاته الواهية، وساد صمت مطبق في كل جنبات القاعة الفسيحة العريضة وهي مملوؤة عن آخرها، ويعرف من بين الحاضرين العديد من الأساتذة الأجلاء وزملاء العمل، هم واعون ومثقفون أـكيد، ولكنهم صمتوا حتى ظن السيد المحاضر أنه قد أحسن الصولة والجولة وحسم الموقف الإيديولوجي لرؤيته وطرحه على ما كان سائدا في تلك العهود؟؟.
لكن صاحبنا أخذ الكلمة في غياب المداخلات، ليفند مجمل ما ذهب إليه السيد المحاضر، وموضة العصر اليسارية آنذاك في أوجها محطات وفعاليات..مواقف وشخصيات، قد أساءت إلى القضية وتاجرت فيها وحادت بها عن الطريق وعن فئات عريضة من الجماهير، رؤية ومنهاجا، عطاء ونضالا ميدانيا ودبلوماسيا..،فانقلبت القاعة إلى صفه وتتالت تصفيقات الحاضرين والحاضرات على دقة معلوماته التاريخية وقوة حجته المعرفية وأسلوبه التواصلي وحماسه النضالي، وما أن أنهى مرافعته المفحمة حتى ساد صمت آخر في القاعة وأسقط في أيدي المحاضرين والمنظمين، وما هي إلا هنيهات حتى تحركت الأقدام تحتك بالأرض، وماج الحاضرون وهمهموا، ليخرجوا بعدها من القاعة جميعا بنظام وانتظام، وكأنهم يثنون على صاحبنا المرافع القوي والمقنع والذي نطق -على ما يبدو – بما أرادوا وما لم يستطيعوا هم النطق به، فأرادوا أن ينهوا السجال على سجاله الحقيقي والواقعي؟؟.
زاد صاحبي وهو يخبرني عن سر قوة مداخلته الترافعية آنذاك فقال: “إيه، تلك الأوقات، كانت الجدية في كل شيء، وكانت المعارك الإيدولوجية والهوياتية على أشدها، والحلقات الجامعية الصاخبة بلياليها البيضاء، لا يصمد فيها إلا الأقوياء، ممن يلتهمون عشرات الكتب والأشرطة أسبوعيا وشهريا، ولمختلف الدعاة والمفكرين والكتاب والفلاسفة، وكنت أنا أتابع القضية وفق مرجعيتي الإسلامية في العديد من المجلات وعلى رأسها مجلة “فلسطين المسلمة” ومجلة “الأمة” وخاصة مجلة “المجتمع” الكويتية، وهي التي دأبت على أن تخصص لها كل أسبوع ملفات وملفات وتثير فيها قضايا وقضايا، كما تابعت القضية من حيت الرؤية والسجال الفكري والاستراتيجي من كتب المناضل اليساري سابقا والإسلامي لاحقا، الأستاذ “منير شفيق” وكيف سفه أوهام “أوسلو” ومفاوضات “الاستسلام” وكل هذا الذي أصبح اليوم فعلا على أرض الواقع مجرد ترهات وهرولة دون عائد، بل هرولة الفراشات إلى نور حتفها ؟؟.
وأضاف صاحبي يقول: “فعلا، قد أكون مبالغا في تقدير الأمور كأي شاب غض طري آنذاك، وفي غياب تأطير علمي أكاديمي رصين، لأنني اكتشفت وتيقنت في ما بعد خاصة بعد بعض الإطلاع على بعض كتب الآخرين برؤية مختلفة ك”برهان غليون” و”عزمي بشارة”، أن القضية قضية الجميع، وأن لليساريين اتجاه القضية نضالهم وعطاؤهم كما للإسلاميين أيضا تضحياتهم وقصورهم كغيرهم، ورغم ذلك فقد أحسست بفخر شكرت عليه قراءتي وإقدامي، حيث كان باستطاعتي تسفيه ونسف أي هراء ثقافي ينال من القضية وحقائقها، هذا وقد حدث معي نفس الموقف في التسعينات، وأنا أتابع الحروب العدوانية المتتالية للصهاينة على شعب فلسطين الأعزل (حيفا38/ يافا47/ طبريا ودير ياسين48/ بيت لحم52/ غزة الأولى55/ كفر قاسم56/ بيت المقدس 69/ صبرا وشاتيلا82/ الحرم الإبراهيمي94/ بلاطة وجنين02/ رفح04/ بيت لاهيا05/…) بما يزيد عن 120 مجزرة صهيونية بشعة؟؟، وأتقطع ألما على المؤامرات الرسمية للقمم العربية والإسلامية وقد تجاوزت في عددها الثلاثين(30) بالتمام والكمال، العربية منها والإسلامية منها (69/74/81/84/91/97/00/03/05/16/17…)، وكلها ذهبت من شرف المناداة بالجهاد المقدس لتحرير فلسطين وحماية المقدسات، إلى مجرد الشجب والندب لجرائم بني صهيون على بشاعتها، إلى الخضوع التام لعرابيهم الغربيين والأمريكيين والتطبيع الفردي والثنائي مع كيانهم اللقيط، من لا اعتراف..لا سلام..لا تفاوض..إلى دعم المقاومة واستخدام سلاح النفط والمقاطعة ضد العدو.. إلى حل الدولتين والأرض مقابل السلام، إلى السلام من أجل السلام، إلى الانقلاب على المقاومة وحصارها والتطبيع ضدها بدون أرض ولا سلام..، إلى تحويل فوهة بنادقهم الخشبية الصدئة المهترئة من وجه العدو إلى وجه بعضهم بعضهم البعض، في اليمن السعيد وسوريا الشقيقة وليبيا وقطر والسودان..والتصدي لكافة الثورات العربية؟؟.
وفي كل قمة وبسم التضامن تقدم تنازلات وشيكات على بياض مقابل لا شيء، بل سجلت العديد من الأنظمة العربية مواقف مخجلة اتجاه الفلسطينيين و زعمائهم الميدانيين حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت، فاغتيل أبو جهاد في تونس، وأخرجت منظمة فتح من لبنان بعد “صبرا وشاتيلا” 1982، وشتت الشتات في مخيمات الشتات لبنان سوريا والأردن، في أوضاع إنسانية مزرية، دفعتني حينها أن أبدع على إثرها رفقة الشباب الجمعوي والجامعي بعض المسرحيات الملتهبة حول القضية وتواطئاتها واعتمالاتها، ورغم قتامتها المضحكة ومأساتها المفجعة، فقد كانت تغطي الأيام الثقافية الفلسطينية لبعض الجمعيات في مدينتنا، وما كانت تختتم به مهرجاناتها من أمسيات فنية صاخبة، كان الإقبال عليها والتفاعل معها منقطع النظير، ولا زال كل أولائك الشباب إلى اليوم – كلما التقيتهم – لا زالوا يلهجون بأبطال تلك المسرحيات القوية وحواراتها العميقة وصراعاتها المفصلية وأجوائها التي لا تنسى، وكأنها جعلت لحياتهم وحياتنا معنى وأي معنى؟؟.
ولكن اليوم – مع الأسف – لم يعد شيء من ذلك أو يكاد، فطبيعي أن نرى كل هذا الفتور اتجاه القضية، وكل ما يطالها من حرب دروس في التعقيد والتشويه وأوهام التطبيع التي لا زال الناس في أعماقهم على عكس الأنظمة والحكومات، يتصدون له بمختلف الأشكال، ولكنه في الواقع الرسمي والنخبوي – مع الأسف – ما يلبث إلا في ازدياد، فما العمل؟؟.
1- لابد من إعادة تصحيح الرؤية نحو القضية، وإيلاء البعد العقائدي فيها المكانة التي يستحقها قبل غيره؟؟
2- إحياء دور جمعيات المجتمع المدني في الدفاع عن القضية في مختلف برامجها وأنشطتها الثقافية والإبداعية والفنية والتكوينية ؟؟
3- النبش في أرشيف الحركة الإسلامية واليسارية والنضالية عموما وما قدمته لصالح القضية في مختلف الجوانب وعلى طول الصراع ولا يزال ملهما؟؟
4- تفعيل العمل الاجتماعي لبيت مال القدس والقضية الفلسطينية عموما، خاصة وأن من المساعدات الدولية ما هو مشروط ويقايض لأغراض غير أغراضها ؟؟
5- القراءة الرصينة الواسعة عن تاريخ القضية و مختلف الأطراف والدوائر والمسارات الفاعلة فيها، وكيف يمكن أن تتجاوز كل هذا الذي أصابها اليوم من الركود والدوران في عبث المتاهات وسخف المفاوضات غير المنتجة إلا لمزيد من القمع والاستيطان، ومن الأشياء التي ينبغي الاهتمام بها في هذا الإطار:
1. النشر حول القضية في وقت لا تجرأ العديد من المنابر على ذلك.
2. البحث في تاريخ العدوان الصهيوني في الوقت الذي لا تجرأ بعض الجامعات على ذلك.
3. إعادة النظر في كيفية التعاطف الفردي والأسري مع القضية بما يقـــــاوم التطبيع فعلا.
4. البحث في الواقع الفلسطيني وما أصبح يعرفه من الفرقة والتجاذب والاصطدام أحيانــا.
5. كيفية تفعيل واقعي متماسك وفعال لمختلف الأطراف العربية والدولية المتعاطفة مع القضية.
6. إحياء الممكن من الفنون الجميلة و النشر والتأليف وكل ما من شأنه إنعاش ذاكرة الأجيــال.
7. استثمار وسائل التواصل الاجتماعي ومهارة صناعة المحتوى، بديلا لتجاهل الإعلام الرسمي.
يا شباب ويا شابات، لا يمكن الترافع عن قضية نحن نجهل تفاصيلها، ولا يمكن ربح قضية نحن لا نؤمن بها أو غير متحمسين للدفاع عنها، فما بالك إذا كان للقضية تاريخ ومسارات..فرص وإكراهات..نجاحات وإخفاقات..أطراف وصراعات..اجتهادات وانحرافات..، وما بالك إذا اعترت القضية تعقيدات ومستجدات وتطورات..حقائق وشبهات وملابسات، قد تجعلها جزئية وهي كلية، ثانوية وهي أولوية، قطرية وهي كونية، أرضية دنيوية وهي عقدية سماوية..، أعتقد أن سبيل استبيان كل هذه الأمور وغيرها، وسلك الطريق الصحيح بوضوح اتجاهها، وبذل الممكن واللازم من الجهد بيقين من أجلها، لا شيء يفيد في ذلك أفضل من القراءة، والقراءة بمختلف أشكالها الفردي والجماعي..السمعي والبصري.. السياسي والسجالي.. التفاوضي والنضالي..، وعي ويقظة ومواكبة..مواطنة تضحية ومبادرة.. وكل هذا في الأول وفي الأخير قراءة، والقراءة واجب وجوب العلم قبل العمل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالقراءة القراءة يا شابات ويا شباب ؟؟.