بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أحبابي الكرام:
أشرقت قلوب المحبين عندما جاء البشير يحمل قرب قدوم الحبيب، فاشرأبت الأعناق متطلعة إلى المقدم الميمون، أقبل يَنفُض الظُّلْمةَ عن دنيا الغفلة، ليُحْيِىَ بالوصل أفئِدة العاشقين، ولِيُنير بالبينات دروب الحائرين، وليسكب في الأرواح اليقين، وليعيد التوازن لِنفُوسٍ أصابها الاختلال في دنيا المكر المبين، رمضان شهر الله، فالمنة جلية، والعطية بهية، وكل أبواب الخيرات مُتْرعةٌ أمام القاصدين، ولا يهلك على الله إلا هالك، نفحات القرب، ولحظات الأنس، وأنوار التلقي، وأسرار الفتح، ونسائم العِتْق، ونداء القَبول (ياباغيَ الخير أقبل) وكلنا يبغي الخير، فَلْنُقبِل على الله فلن يرُدَّنا، عام كامل من الهجر، ولا حياة للقلوب في ظل الهجر، فإن القلوب تتوق إلى فطرتها، وتنزَعُ إلى جِبِلَّتِها رغم كل محاولات صرفها وإبعادها، فالحياة مع الله وتحت ظلال كتابه هي الحياة، وما سوى ذلك فهو تَسَكُّعٌ في دروب الحياة إلى حين، جاءكم المُطَهِّرْ، حيث تنزل الرحمات لِتَنتَشِلَ الذين هم على شفا الهلاك من غمرة حيرتهم، وتأخذهم إلى خيام أهل الله، حيث الكتاب يُتْلى يَعْرِضُ نعم الله وأوامره ونواهيه، ويعرض سِيَرَ المُصْطَفَيْنَ الأخيار، الذين ضربوا صَفْحاً عن دار الأكدار، الذين فهموا المراد، فَأَرُوا الله من أنفسكم خيرا، فإنه الرب الكريم، الذي يعفو ويَصفح، ويُعطي ويمنح.
أَعدُّوا قلوبكم فهي أَوْعِيَةُ التّلقي، أعِدُّوها بتطهيرها من الأحقاد، فإن القلب الحاقد لا يُحَصِّل خيرا ولا نفعا، أعدوا ألسنتكم بتنزيهها عن الغيبة والنميمة وقول الزور، فإن الصومَ في ظل إطلاق العِنان للسان إنما هو توقف عن الأكل والشرب (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، تَحلوا بصفات عباد الرحمن (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) لا يستفزنكم أحد فيَضِيع أجرُكم، من كانت بينه وبين أحد قطيعة فليهدم جدار الكبر، وليبادر بالصلح، فإن الأعمال ترفع إلى الله فَيُرَدُّ عمل المُتَخاصِمَيْن، لا تدعوا أوقاتكم نهبا لأرباب الشهوات والقنوات، فإنما هي أيام معدودات، وعند الصباح يَحْمَدُ القوم السُّرَى.
أحبابي: الإنسان دائما مُقتَرِنٌ بالزمان، ومُفتَقِرٌ إلى المكان، والزمان حركة دائبة مستمرة، فهو بذلك مارّ، وليس بشيء قارّ، ومن ثَّمَّ كان ينقسم إلى ماض ومستقبل وحاضر، فالماضي غائب بعيد، والمستقبل غائب قريب، والحاضر بينهما يبادره العاقل الأريب، ومن أعظم المصائب، تبديل الحاضر بالغائب، ومن الغُصَّة، إضاعة الفرصة، فلا يضيع المؤمن صيام هذا الشهر وقيامه، ولا يفوته إكرامه واحترامه، فلنحترس من قول السوء وفعل السوء وظن السوء، ولنتجنب الفسوق والجدال، فإن حكمة الصيام تتجلى في مخالفة النفس، وتصفية العقل، ومواساة الخلق، وفي التقرب إلى الله بكلمات الذكر، ومجالات الفكر، فإن الذكر سِيَاجٌ واطمئنان، والفكرَ تدبرٌ وإمعان، والقرآنَ شفيع وبرهان، والبِرَّ طاعة وامتحان، والله المستعان وعليه التُّكْلان.
بارك الله لكم أحبتي في هذا الشهر الكريم، والوافد العظيم، وجعلني وإياكم فيه من الفائزين، وأجارني وإياكم من عذابه المُهين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، محبكم وحافظ عهدكم وودكم عمر بن أحمد القزابري.