الكنبوري يكتب: وثيقة “العدل والإحسان”.. لغة سياسية مباشرة واقتراحات عملية
هوية بريس – د.إدريس الكنبوري
نشرت جماعة العدل والإحسان وثيقة سياسية تعرض فيها تصورها للإصلاح الشامل في المغرب، وتقترح مشروعا للانتقال من “مجتمع الدولة إلى دولة المجتمع”، وتطرح تصورها لتدبير الشأن العام في البلاد.
وهذه الوثيقة ليست من جنس الوثائق التي دأبت الجماعة على تقديمها منذ ثلاثة عقود، إذ كانت تكتفي بوضع الخطوط العامة، في لغة احتجاجية لمطاولة الدولة، بل نحن هذه المرة أمام وثيقة يمكن وصفها بالتاريخية بالنسبة للجماعة، إذ نحن أمام مشروع مفصل بشكل دقيق (198 صفحة حجم الوثيقة) يشمل كافة مداخل الإصلاح، وأمام لغة سياسية مباشرة، وأمام اقتراحات عملية لا مجرد احتجاج.
وقد اختارت الجماعة التوقيت بدقة لطرح هذا المشروع على الدولة والفاعلين والرأي العام، توقيت يتميز بانغلاق سياسي وافتقاد للبدائل وانسداد للأفق، و”موت للسياسة” بالمعنى الحرفي للكلمة. كما أن هذا التوقيت يأتي بعد تجربة عشر سنوات من تدبير حزب العدالة والتنمية للشأن العام، وتآكل شعبية الشعار الإسلامي، ما يبدو أنه حفز الجماعة على طرح مشروعها لإدراكها أن الفراغ السياسي الحالي مناسب له. ويمكننا القول إن الجماعة استبطنت تجربة عقد من تدبير حزب العدالة والتنمية، وسعت إلى الإفادة من تلك التجربة وتجاوز مطباتها الدستورية والقانونية والسياسية التي ألجمتها، ولذا جاءت الوثيقة باقتراحات ومطالب غير مسبوقة تتسم بالجرأة.
التفصيل الذي اتسمت به الوثيقة يوحي بأنها وضعت بنًفَس انتخابي يشكل مقدمة للمشاركة السياسية للجماعة. قد تكون المقدمة أوسع من الكتاب، لكنها مقدمة؛ فقد أكدت الوثيقة أن المشروع السياسي “يجسد تصور الجماعة واجتهادها العملي في مقاربة القضايا السياسية وتدبير الشأن العام”، وتحدثت عن “المعارضة الشرعية القائمة على الشهادة بالقسط”، وهذه من مفاتيح المشاركة السياسية؛ فلأول مرة تطرح الجماعة مشروعا يشمل كافة جوانب الإصلاح، من الإصلاح الدستوري إلى إصلاح القوانين الانتخابية، مرورا بإصلاح الإدارة والتدبير المحلي والعمل البرلماني والهياكل الحزبية واللامركزية والاقتصاد الوطني والسياسة الخارجية وغير ذلك. أضف إلى هذا أن الوثيقة موجهة أساسا إلى الدولة، وجانبيا إلى الهيئات السياسية ومختلف الفاعلين، وقد يُفهم من هذا أن المشروع الذي تتضمنه تنوء به هذه الهيئات، لأن سقفه قد لا تتحمله، لذا فهو موجه أساسا إلى الدولة لاختبار إرادتها في الإصلاح، وموجب هذا أن تاريخ المغرب رسخ تقليدا جاريا، وهو أن جميع مشاريع الإصلاح تتلقاها الدولة وهي التي تقوم بتنفيذها، وبرامج الإصلاح تنزل من الأعلى، ومن هنا أهمية الإرادة السياسية للدولة.
ولا شك أن الوثيقة هي حصيلة نقاش داخلي طويل خاضته الجماعة مع نفسها، منذ وفاة الشيخ عبد السلام ياسين عام 2012، بين تيار الحفاظ على الخط الياسيني الذي يعطي الأهمية للجانب التربوي، والخط السياسي الذي يرى أن المدخل إلى الإصلاح مدخل سياسي. وقد كانت أطروحة الشيخ ياسين تؤكد على مركزية المنهج التربوي لتعبيد الطريق أمام السلطة السياسية، فكانت التربية أصلا والسياسة فرعا، أي إن النضج التربوي كفيل بإحداث النقلة السياسية في المجتمع، بيد أن الوثيقة غيرت المعادلة، بحيث أصبح العمل السياسي أسبق من المنهج التربوي، وهو الذي يعبد الطريق أمام استعادة القيم الإسلامية؛ وإن حاولت أن تجمع بين الإثنين من خلال الإشارة إلى كون الوثيقة تتسم بالتكامل مع المشروع التربوي والدعوي.
وقد لوحظ أن الوثيقة تضمنت فقرات من كتابات الشيخ ياسين لتعضيد بعض القضايا، بيد أن تلك الفقرات بدت مقحمة من خارج النص، فيما بدا أنها مجرد محاولة لإضفاء المشروعية على تلك القضايا من خلال الاستناد إلى الإرث الياسيني، لأن تلك الفقرات عامة ويمكن استبدال فقرات أخرى من غير كتابات الشيخ ياسين بها من غير أن يحصل تغيير في مضمون الوثيقة؛ وهذا ما قد يفهم منه أن الوثيقة حصيلة مصالحة داخلية بين التيارين المشار إليهما.
لقد قفزت الوثيقة على الملكية ومؤسسة إمارة المؤمنين، ما يعني أن الجماعة تجاوزت مرحلة الاستثمار السياسي للموقف من إمارة المؤمنين إلى مرحلة التطبيع مع العمل السياسي تحت سقف الملكية، فهي لم تعد بحاجة إلى التلويح بهذه الورقة التي كانت تحتاجها في سنوات التعبئة، وصارت أكثر واقعية. ولكن إذا كانت الوثيقة سكتت عن إمارة المؤمنين فقد تناولت الملكية بطرق غير مباشرة، من خلال بعض المقترحات، من مثل ربط السلطة التنفيذية بالحكومة دون غيرها، وجعل اختيار الوزراء وإعفائهم من اختصاص رئيس الحكومة وحده، والتنصيص الدستوري على جعل وضع السياسات العمومية وتنفيذها من اختصاص الحكومة وحدها، واعتماد الانتخاب آلية وحيدة لاختيار أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهي كلها مقترحات لها علاقة بالمؤسسة الملكية. بينما اكتفت الوثيقة بالإشارة الضمنية إلى إمارة المؤمنين مرة واحدة، عند حديثها عن تحرير مؤسسات الشأن الديني، ومنها المساجد، من احتكار السلطة وضمان حيادها.
وأكدت الوثيقة على ضرورة إعادة تأسيس دستور بشكل من الأشكال الديمقراطية، من خلال “جمعية تأسيسية غير سيادية”، و”التداول السلمي للسلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة ومنتظمة وفعالة… مع خضوع مسئوليها للمحاسبة والمساءلة بغض النظر عن مكانتهم السياسية ومواقعهم الاجتماعية”، وأن ترفع الدولة يدها عن الأحزاب السياسية لتقوم هذه الأخيرة بما يفترض فيها من تنافس على الحكم وتمثيل للمواطنين وتأطير سياسي لهم؛ كما أكدت على أهمية الإصلاح الإداري، وتأسيس نظام لا مركزي يُعهد بتدبيره إلى هيئة مستقلة عن وزارة الداخلية، مع اعتماد الانتخاب المباشر لرؤساء الجهات، ومحاربة الفساد من خلال دعم السلطة الرقابية للمجتمع عبر منظمات المجتمع المدني، ووضع إستراتيجية فعالة للعمل الدبلوماسي، مع تكريس الارتباط العضوي بالأمة العربية والإسلامية، وتغليب كفة المصالح الوطنية في العلاقات الخارجية، وتطوير العمل البرلماني، ومن ضمنه انبثاق البرلمان عن انتخابات حرة ونزيهة واعتبار التشريع مجالا حصريا للبرلمان.
جميع هذه الاقتراحات العملية في الوثيقة تمثل قطيعة سياسية لدى الجماعة عن الحقبة السابقة، وتؤشر على تحول نوعي في الأداء السياسي ينقلها من الغموض إلى الشفافية؛ بل إن الوثيقة كشفت اليوم الوجه الحقيقي للجماعة، وأجْلت مكامن الغموض التي كانت تدفع الكثير من الفاعلين في السابق إلى التشكيك في نواياها وتكييف خطابها السياسي لغير صالحها، ما كان يشجع على عزلها بالنظر إلى عدم الوضوح الذي اتسمت به. فكثيرا ما حوكمت الجماعة في ضوء “المنهاج النبوي” الذي يرجع إلى السبعينيات، أو رسالة “الإسلام أو الطوفان”، أو مختلف كتابات الشيخ ياسين، لكن الوثيقة اليوم وضعت خطابها السياسي ومشروعها الإصلاحي في دائرة الضوء.
الوثيقة جاءت في لحظة دقيقة في المغرب، يميزها الإفلاس الحزبي والانغلاق السياسي وانتشار الفساد وغياب الوساطة ذات المشروعية بين الدولة والمجتمع، ولذا يمكن القول إننا أمام مشروع متكامل للإصلاح من شأنه أن يُنضج حالة من النقاش الصحي حول الوضعية المأزومة والبدائل الجديدة للخروج من عنق الزجاجة.
فقد جرب المغرب طريقين كلاهما لم ينجح، طريق التناوب مع الاشتراكيين وطريق التناوب مع الإسلاميين، وكلاهما مني بالفشل لأسباب ليست بالضرورة مرتبطة بتلك الهيئات، بقدر ما هي مرتبطة بالبيئة السياسية التي عملا فيها، وغياب الإرادة السياسية الفعلية في الإصلاح. وليس أدل على هذا من أن الاشتراكيين والإسلاميين كانوا يلقون باللوم في فشلهم على عوامل من خارج نطاق مسؤولياتهم، وهي حالة شاذة تظهر أن الحكومات ليست دائما مركز السلطة، وأن استمرار ثنائية السلطة والنفوذ يظل من كوابح الإصلاح.
تحليل رائع ، شكرا لك