إحسان الفقيه: مشكلة أوضاع أم مشكلة إنسان؟
هوية بريس – احسان الفقيه
«لقد أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة، ونسينا الواجبات، ونسينا أن مشكلتنا ليست في ما نستحق من رغائب، بل في ما يسودنا من عادات وما يراودنا من أفكار، وفي تصوراتنا الاجتماعية، بما فيها من قيم الجمال والأخلاق، وما فيها من نقائص تعتري كل شعب نائم».
يُعتبر المفكر الجزائري مالك بن نبي -صاحب هذه العبارة- من أكثر المفكرين عُمقا في تناول مشكلات العالم الإسلامي وتحديد أبعادها، والوقوف على جوهرها من دون التركيز على الأعراض والمظاهر، فلذا يرفض منطق التساهل الذي اعتنقه الكثيرون في ردِّ مشكلات الأمة إلى الأزمات التي يعتبرها هو نتائج لأصول أخرى.
دائما نضع تصوراتنا في تشخيص المشكلة في إطار اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي، فالبعض يرى أن الفقر هو المشكلة الأساسية، لكن بالنظر إلى تكدُّس الأموال في أيدي ثُلّة من الأثرياء الذين ينفقون في البذخ والترف الزائد، تُصبح المشكلة مزدوجة، فإضافة إلى الفقر تبرز القيم الفاسدة المصاحبة لمسائل التملّك والإنفاق كسبب رئيس في المشكلة. البعض يرى كذلك أن مشكلة الأمّة تكمن في الجهل، مع أن الواقع يشهد بأن كثيرا من المتعلمين ليس لهم تأثير في حياة الآخرين، وربما لا تجد أي فرْق بينه وبين غير المُتعلّم. وحتى أثر الاستعمار في بلادنا، ربما أعدّه البعض المشكلة الأبرز، نرى بشيء من التأمُّل أن الاستعمار لم يكن سوى سبب أو نتيجة لأَصل في نفوسنا وهو القابلية للاستعمار. المشكلة ليست في الأزمات والأوضاع، فما من أُمة تقدمت أو نشأت إلا وأمامها العراقيل والعوائق، فعلى سبيل المثال كانت الطوائف اليهودية في بعض البلدان في السابق تعاني الاضطهاد ووضْع العراقيل أمام التجارة والحصول على التعليم، لكنهم لم يركنوا إلى تلك الظروف، وأنشأوا مدارس سرِّية في البيوت يقوم عليها متطوّعون من شتى المجالات، ونشطوا في مجال التجارة على مبدأ الفرد للجميع والجميع للفرد، وعمّروا المعابد أكثر من ذي قبل، باختصار: قدموا أنموذجا لانتصار الفرد على البيئة.
في كتابه «شروط النهضة» يبرز مالك بن نبي سبب انتصارهم على العراقيل الخارجية بقوله: «كان نجاحهم منطقيا، فإن أنفسهم لم تكن معلولة، ولم يكن مِن مُعوّق داخلي يُمسكهم عن التقدم ويحطّ من قيمة أنفسهم بأنفسهم». إن المشكلة الأساسية تكمن في ذلك الجهاز الاجتماعي الأول المسمى بالإنسان، الإنسان المسلم الذي غاب عن الفاعلية فغاب عن التأثير في الواقع. مشكلة ثقافة أفراد تجعلهم دائما يتحدثون عن حقوقهم المسلوبة، ويغضون أبصارهم عن الواجبات التي تقع على عواتقهم، ولستُ أعني بالثقافة هنا المعرفة كما يظن الكثيرون، وإنما أعني ذلك الإطار الجامع للصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أوّلي في الوسط الذي نشأ فيه. وكثيرا ما نرى أن بعض النخب الثقافية بلا تأثير، وهو نتيجة طبيعية لذلك الخلل الذي نتحدث عنه، وربما طالب كغيره بالحقوق المسلوبة تحت أيّ ظرف، مثل ذلك المُثقَّف الذي وقف يومًا في إحدى الجامعات العربية يقول: «إننا نريد حقوقنا ولو مع جهلنا وعُرينا ووَسَخِنا». ما الذي يجعل الطالب العربي يتقدم أحيانا في دراسته عن الطالب الأوروبي، بينما يتفوق عليه الأخير في التأثير في مجتمعه؟ إنها فاعلية الفرد وقدرته على التأثير. إن أيّ مشروعات نهضوية لا تنبني على إعداد الفرد، تُعتبر كقصور من الرمال على شاطئ البحر، لن تجدي ولن تستمر، فعلى سبيل المثال: الفرد الذي لا يتشبع بالقيم الحضارية الإيجابية لن يضع القمامة في سلّة المُهملات المخصصة لها مهما كان عددها في الشوارع، بينما الفرد الفعال تجده يبحث عن مأوى لمخلفات منزله مهما طال به البحث. التوجه إلى إعداد الفرد هو واجب الوقت ورأس الأولويات، وإلا فالدوران في حلقة مفرغة، فلا مَناص من إعداد الفرد وتنميته وتثقيفه.
أسهل وأقرب السبل لإعداد الفرد يكون من خلال الحكومات والأنظمة التي تسيطر على مفاصل الدول ومؤسساتها، وتستطيع – إن شاءت – إعادة صياغة الفرد ليكون جزءًا من عوامل الاستيلاد الحضاري. لكن كما هو معروف، تُعتبر معظم الأنظمة العربية الإسلامية ذيلا للاستعمار الذي رحل وترك لنا جيوشا وحكومات تقوم بعمله، في وضع العراقيل أمام تفجير الطاقات والمواهب، ولذا لا يُعوّل على تلك الحكومات التي لا يعنيها في الغالب سوى العروش التي تركها المستعمر. وإنما أسوق ذلك التوضيح حتى لا يتهمني أحد بالتكريس للظلم الاجتماعي، بإلقاء الكرة في ملعب الأفراد ونزع التبعة والمسؤولية من عن أكتاف الحكام والمسؤولين، ولا أبرئ ساحة الأنظمة في ما وصلنا إليه من أوضاع مُترديّة، وإنما لا بد أن نتحدث عن بديل بعد أن بُحّت الأصوات. بقِي التعويل على الفرد ذاته، في استشعاره المسؤولية في أنه مفتاح التغيير، وبحركته يتحرك المجتمع والتاريخ، تشاركه في ذلك المحاضن والمؤسسات التي تهدف إلى الإصلاح في شتى المجالات، سواء كانت مؤسسات دينية دعوية، أو اقتصادية، أو تعليمية، أو سياسية، أو إعلامية. جميع هذه المحاضن يمكنها وضع آليات لتشكيل الفرد العضو في المؤسسة بما يتفق مع الهوية الثقافية لمجتمعه، وما يتفق مع متطلبات النهوض.