سلسلة أنواع القلوب (3ح) القلب الراضي (ج1)
د. محمد ويلالي
هوية بريس – السبت 08 غشت 2015
سبق معنا -ونحن نتحدث عن أنواع القلوب-، بيان لموقع القلوب من كتاب الله تعالى، الذي حفل بـ194 موضعا ذكر فيها القلب لفظا ومعنى، مصنفة أنواع القلوب إلى 35 نوعا، 10 أنواع للقلوب الصحيحة السليمة، و25 للقلوب السقيمة العليلة. ثم ركزنا الحديث -في الجمعة الماضية- على النوع الأول من أنواع القلوب الصحيحة، وهو “القلب السليم”، الذي جعلت له ست علامات تميزه: السلامة من فتنة الشبهات والشهوات، الإدبار عن الدنيا والإقبال على الآخرة، سلامة الصدر من الغل والحقد والحسد، الفرار إلى الله وترصد حلاوة الإيمان بالإقلاع عن المعاصي، مجالسة من يذكر الآخرة ويرغب في الجنة، المسالمة والمساكنة والجنوح إلى الرفق والحلم.
وسنحاول -في هذه العجالة- تركيز الحديث على النوع الثاني من القلوب الحية الصحيحة، التي توجب صحة الدين، كما توجب صحة البدن، وهو “القلب الراضي”.
عرف الرضا بأنه: “سكون القلب إلى اختيار الرب“. وقيل: “سرور القلب بِمُر القضاء“. وقيل: “هو: استقبال الأحكام بالفرح“.
ولا شك أن من تمثل حقيقة الرضا، فقد حاز سعادة الدنيا والآخرة، لأنه فَرَّغ قلبه من الانشغال بالمخلوق، وشغله بالخالق، فأحيى في قلبه جنة لا يعرف حلاوتها ولذتها إلا الراضون المرضيون. قال – تعالى – في وصف أهل الجنة: “جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ“.
قال عبد الواحد بن زيد: “الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، وسراج العابدين“.
وقال أبو عبد الله البَرَاثي: “من وُهب له الرضا، فقد بلغ أقصى الدرجات“.
وقواعد الرضا التي لا يستقيم إلا بها ثلاث: الرضا بالله ربا، والرضا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- رسولا، والرضا بالإسلام دينا، وهو ما يستوجب حلاوة الإيمان. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً” مسلم. بل يكفل مغفرة الذنوب جميعا. قال -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ” مسلم. فلا عجب أن يكون هذا الاعتراف الجميل بالرضا أحد أدعية اليوم والليلة، كما جاء في الحديث: “من قال إذا أصبح: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فأنا الزعيم لآخذنَّ بيده حتى أدخله الجنة” صحيح الترغيب.
ـ أما الرضا بالله ربا، فيقتضي الإيمان بالقرآن الكريم باعتباره كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليس كتابا للتبرك وحده، أو تزيين الرفوف، وتأثيث المكتبات والخزانات، وإنما باعتباره كتاب تشريع وهداية، كتاب أخلاق وعبادة، كتاب قضاء وسياسية، “إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا“.
والرضا بالله ربا يقتضي أن يخضع رضانا عن الأشياء لرضاه -عز وجل-، فلا نحب إلا ما أحبه الله، ولا نختار إلا ما اختاره الله، ولا نفعل إلا ما أمر به الله، ولا ننتهي إلا عما نهى عنه الله، لا نقدم عليه إنسا ولا جنا، ولا شرقا ولا غربا، ولا عقلا ولا هوى. قال -تعالى-: “يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ“. وقال -تعالى-: “ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ“.
وقد يبدو ما اختاره الله مريرا صعبا، فنقدمه على اختيارنا وإن تبدى لنا اختيارنا سالما طيبا، فالخير في ما اختاره الله وإن كان مرا.
قال الحسن البصري: “من اتكل على حسن اختيار الله، لم يتمن غير ما اختار الله له“.
وقال أبو عثمان الحيري: “منذ أربعين سنة، ما أقامني الله في حال فكرهته، وما نقلني إلى غيره فسخطته”.
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “لأن ألحس جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت، أحب إلي من أن أقول لشي كان: ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن: ليته كان”. وفي الحديث: “فَإِنَّ “لَوْ” تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ” مسلم.
وليس الزهد في التقلل من الدنيا، ولُبس الصوف والمرقع، والانعزال في قُنَن الجبال والهضاب، إنما الزهد الحقيقي في تحقيق الرضا القلبي بالله -تعالى-، فننقاد لأوامره، ونعمل بتشريعه، ونفرح بقضائه وقدره. قال عبد العزيز بن أبي رواد: “ليس الشأن في أكل خبز الشعير والخل، ولا في لبس الصوف والشعر، ولكنَّ الشأن في الرضا عن الله عز و جل“.
والرضا بالله ربا يقتضي أن تصبر على ما قضاه بلا تردد أو تعبس أو تضجر، بل تستقبله بالفرح والسرور، لأنه اختيار الله لك، فقد يبتليك ليمحص إيمانك، ويعلمَ قدره عندك، وصبرَك على امتحانه لك. قال -تعالى-: “إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ“.
قال عمر ـرضي الله عنه-: “والله ما أبالي أيهما ركبت: مطية الفقر أو مطية الغنى، إن كان فقراً فصبرٌ وأجر، وإن كان غنى فشكرٌ وأجر“.
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “والله ما أصبح لي من سعادة، إلا أن أتلمح القضاء والقدر، ففي أي موقع يقع القضاء والقدر فهي السعادة“.
كم منا يكون غنيا، ثم يبتليه الله بالفقر، فتقوم قيامته ضجرا، وغضبا، وحزنا، ولربما مرض كندا وغما، مع أن الله -تعالى- هو القابض، وهو الباسط؟.
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله -تعالى- قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله -تعالى- يُعطي المال من أحب ومن لا يُحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب” صحيح الأدب المفرد.
وقال ابن عون: “لن يصيب العبدُ حقيقة الرضا، حتى يكون رضاه عند الفقر كرضاه عند الغنى”.
وقال السفاريني: “فمن عباده من لا يُصلحه إلا الفقر، ولو أغناه لفسد عليه دينُه. ومنهم من لا يُصلحه إلا الغنى، ولو أفقره لفسد عليه دينُه”.
ولذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: “وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء” صحيح سنن النسائي.
قال ابن الجوزي: “أما العارف، فتقل عنده المرارات، لقوة حلاوة المعرفة. فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار حلاوة”.
العبد ذو ضجر والرب ذو قَـدَر***والدهر ذو دُوَل والرزق مقسوم
والخير أجمـعُ فيما اختـار خالقُنا***وفي اختيار سِواهُ اللُّـومُ والشُّـومُ
ـ وأما الرضا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا، فيقتضي اتخاذه أسوة حسنة، ومثلا أعلى، يُتَّبَع هديه، ويَقتفَى أثره، ويَقدَّم قوله على قول غيره. قال -تعالى-: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ“، فيكون شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحب إلى المؤمن من ولده ووالده ونفسه. قال -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ، وَوَلَدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ” البخاري.
ولا يتم رضا العبد بالله ربا حتى يرضى بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا، مشرعا، آمرا، ناهيا. قال -تعالى-: “إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله“. وقال -تعالى-: “مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ“. ويقول سبحانه: “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا“. قال ابن القيم -رحمه الله-: “فلا توجد طاعة لله، وطاعة للرسول، ولا رضا لله ورضا للرسول؛ لأن الرضا منهما رضا واحد.. ولذلك وحَّد الضمير سبحانه وـتعالى-:”والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ” دليلا على اتحاد الرضا من الله ومن رسوله”.
ولقد طلع علينا -هذه الأيام- أقوام يسفهون الحديث، ويقللون شأنه، ويعتبرون الحجة في القرآن وحده، كما ذهب القرآنيون من قبلهم، فتركوا العمل بالحديث، والاحتكام إليه، وأسقطوا بيانه للقرآن، وتفصيل مجمله، وتخصيص عامة، وتقييد مطلقه، وتأسيسه لأحكام جديدة ليست فيه، ووجدوا ضالتهم في تسفيه الكتب التي نقلت إلينا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبخاصة صحيح البخاري، باعتبار مكانته في نفوس المسلمين، فانهالوا عليه تضعيفا، وتشكيكا، وتهميشا، ووضعوا لذلك شبها، وتمويهات، عسى أن نكشف شيئا منها في المناسبة القادمة -إن شاء الله-.