احسان الفقيه: جنازات نجوم الفن وأهل العلم.. ومقياس الوعي
هوية بريس – احسان الفقيه
الأحد 16 غشت 2015
مما قرأته كثيرا واشتهر ذكره عن سقوط الأندلس، أن نصارى أوروبا قبل غزوها، أرسلوا الجواسيس للوقوف على مدى تمسك المسلمين بدينهم، وما إذا كانوا يعيشون حياة الجد أم غارقين في اللهو والهزل، وعليه يُبنى قرار الغزو.
فكان مما رصده الجواسيس اهتمام الشباب بالعلم والجهاد، ومن ذلك أن جاسوسهم رأى شابا يبكي لأنه أصاب الهدف بتسعة أسهم من عشرة، فعلموا أنهم لا قِبل لهم بأمة هذا حال شبابها.
لكنهم بعد فترة من الزمان عادوا لنفس المهمة، فوجدوا الأمور قد تغيرت، والناس قد دبّ فيهم الترف واللهو وانحطاط الهمم، ومن ذلك ما رآه الجاسوس حين وجد شابا ينخرط في البكاء لا لشيء إلا لأن عشيقته قد فارقته، فقالوا: الآن الآن قد آن الأوان.
فلا ريب أن اهتمامات الشعوب هي مقياس نهضة أي دولة أو أمة، وقد عدّ ابن خلدون انخراط الشعوب في حياة الترف والدعة من أسباب سقوط الممالك وزوالها.
طالعنا منذ أيام نبأ وفاة الفنان المصري المعروف “نور الشريف”، وعلى عادة الشعوب في التعامل مع وفاة نجوم الدراما العربية، كان هنالك اهتمام غير عادي، وكان الخبر محل اهتمام المشاهد العربي في كل مكان.
وابتداءً أقول أن الفنان الراحل رحمه الله كان من طبقة الفنانين “المحترمين” وله بعض الأعمال الفنية الهادفة، وبصفة شخصية أحترم هذا الرجل ولا أتناول وفاته على نحو شخصي، وإنما باعتبار انتمائه إلى فئة نجوم السينما والتلفزيون.
هذا الاهتمام الكبير الذي تبديه الشعوب إزاء وفاة الفنانين يعكس اهتماماتها بلا شك، وأن هذه الطبقة استطاعت أن تحتل مساحة كبيرة جدا من اهتمامات المواطن العربي.
وبنظرة موضوعية هادئة أتساءل ماذا قدم أهل الفن والدراما حتى يكتسبوا هذه الأهمية البالغة التي تطغى على الاهتمام بأهل العلم سواء كانوا علماء في الشريعة أو الطب أو الكيمياء أو علوم الفضاء أو أي فرع آخر؟
ما هي إنجازاتهم التي استفادت منها البشرية، وما هي أعمالهم التي استحقوا بها تخليد أسمائهم لدى الشعوب؟
بنظرة موضوعية هادئة أيضا، ومن خلال رصد بسيط للواقع، نستطيع القول أن نجوم الدراما العربية في المُجمل، لم يقدموا للجماهير شيئا سوى أنهم كانوا بمثابة “الحبوب المخدرة” التي وضعتها الأنظمة والأيادي الخارجية المُغرضة التي هيمنت على كلّ ألوان الفنّ ومنها السينما، في كؤوس الشعوب، لإلهائها عن قضايا الأمة العظام، والركون إلى الدعة والراحة وسفول الهمم.
فأن يقضي المواطن ربع حياته أو ثلثها أو نصفها أمام الشاشات، فهذه طامة كبرى..
نعم صدّقوا ما قرأته أعينكم، فلو جلس المشاهد أمام الأعمال الدرامية وحدها (فضلا عن البرامج والمواد الأخرى ومباريات الكرة) ست ساعات يوميا فهو يعني أنه يقضى ربع حياته في مشاهدة الأعمال الدرامية.
• نجوم الدراما العربية لم يقدموا شيئا سوى التشكيل السلبي للأجيال، وتغيير البُنية الأخلاقية والقيمية لها.
ولست أبالغ في ذلك، فالأجيال الناشئة والتي تسبقها قد كبُرت فعليّا في كنف الدراما، وظهرت الآثار الوخيمة للدراما العربية على العلاقات الاجتماعية وفي سلوكيات الشباب.
العلاقة بين الطالب والمعلم، بين الزوجة وحماتها، بين الأبناء والآباء، قد انحرفت عن طبيعتها التقليدية الأولى بفعل الدراما.
انتشار تعاطي المخدرات بين الشباب كانت الأعمال الفنية أبرز العوامل التي أسهمت في حدوثها.
العنف والتهور والجرأة في استخدام السلاح قد انتشر بفعل المشاهد الدموية التي تضمنتها الأعمال الدرامية.
• ولستُ أسوق هذا من قِبل إبداء الرأي او التكهُّن إنما هو وفق دراسات وإحصاءات، ومن ذلك:
تبين من دراسة وزارة الإعلام الكويتية حول أثر برامج العنف والجريمة على الناشئة، أن 39% من أفراد العينة يُقلدون ما يشاهدونه من أفلام العنف.
كشفت دراسة ميدانية في الإمارات حول ظاهرة جُنوح الأحداث، مدى تأثير السينما والتلفزيون على تعلّم الحدث لسلوك سيء، تبين أن أهم الوسائل التي علّمت المنحرفين العنف هي السينما بنسبة 70%، والتلفزيون بنسبة 20%.
والحديث عن الأرقام والدراسات يطول، اكتفيتُ منه بما سبق لضيق المقام.
• قليلة هي الأعمال الفنية الهادفة التي تقول شيئا ما، وتعالج مشكلة ما ..بشكل إيجابي، بل لا أبالغ إن قلت أنها نادرة.
ضحكوا علينا وضحكنا نحن على أنفسنا عندما قلنا: إن الفن رسالة، وأن نجوم السينما والتليفزيون أصحاب رسالة، وصدقوا هم أنفسهم كذلك، حتى بات الواحد منهم يتمنى أن يقبضه الله على خشبة المسرح أو في الاستوديو، ولا عجب في ذلك فسوف يطلق عليه شهيد الفن إذا مات، ولا عجب فقد أصبحوا الفئة المقربة من الأنظمة الحاكمة او من دوائر صُنع القرار .
• أنا لست ضد الأعمال الفنية الهادفة، ولكني أتساءل.. أين هي؟
أنا ضد أن يكون هذا هو مستوى إدراك ووعي الجماهير، وأن تحتل طبقة أقل ما يقال فيها أنها لا تفيد المجتمع، هذه المساحة الهائلة من الاهتمام.
كل يوم أو أسبوع أو شهر، نسمع بموت عالم في الدين، أو طبيب مشهور، أو مخترع مرموق، من أولئك الذين تركوا بصمتهم في الحياة، نعلم بخبر موتهم عبر عنوان جانبي في إحدى الجرائد، أو كخبر عارض في أحد المواقع الإخبارية، ثم يتساءل معظم الناس الذين يقرؤون الخبر: من هو الرجل؟
ولا يهتم لموته سوى الشريحة التي ينتمي إليها ذلك المتوفّى، وما عداهم، فلا تسمع له بينهم ذكرا، ولا يقام من أجله الحداد في التلفزيون، ولا تُستعرض أعماله وإنجازاته على الفضائيات. والسبب ببساطة شديدة أنه قد افتقد ما قدمه أهل الفن للجماهير، وهو عنصر (الإمتاع الوهمي)، والذي أصبح معيارا للعطاء، وعلى أساسه تبني الجماهير العريضة موقفها من الشخصية.
ولعل الإمام أحمد بن حنبل عندما قال أيام المحنة لخصمه القاضي أحمد بن أبي دؤاد: “بيننا وبينكم الجنائز“، كان يعوّل على وعي الجماهير بتقييم الرجال، وإدراكهم لقيمة الشخصية وما تقدمه للناس، وبالفعل شهد جنازة الإمام أحمد مئات الآلاف من البشر، بينما كان قاضي المحنة لا يسير في جنازته سوى نفرٌ يسير.
• عندما تدرك جماهير الأمة قيمة رموزها، وتقدر عطاءاتهم، وتستشعر بالفعل مدى أهميتهم، فيصبحوا موضع اهتمام الشعوب، حينئذ نستطيع القول إن الأمة مؤهلة لنقلة حضارية.
ولا أرى حلا من وجهة نظري سوى أن ينشط الإعلام المضاد على قلة إمكاناته وضعف تقنياته، في التعريف برموز الأمة وعلمائها وأهل الجدّ والعطاء في شتى المجالات.
الشباب يفتقد إلى القدوات الحية المعاصرة، فلابُد من التعريف بتلك الثروات المُهملة التي غيب الإعلام والأنظمة القمعية ذكرها وصورتها وحقيقتها وقيمتها عن الناس.