التصوف السني بالمغرب حقيقة أم خديعة (ح1)
ذوالفقار بلعويدي
هوية بريس – الثلاثاء 18 غشت 2015
توطئة حول التصوف وخرافة التقسيم*
على هامش المحاضرة التي ألقاها الأستاذ توفيق الغلبزوري تحت عنوان: “السـلفية والتصوف السني”. وذلك ضمن مشاركته في ندوة “السلفية.. تحقيق المفهوم وبيان المضمون”، التي عقدها المجلس العلمي الأعلى بالرباط يوم الخميس 12 جمادى الآخر 1436هـ الموافق لـ02 أبريل 2015؛ والتي كان الدافع منها -أي الندوة- البحث في قضية السلفية.
كل هذا في إطار حرص الاتجاه الرسمي ببلدنا على إنجاح مشروع ترشيد العمل الديني في جانبه العقدي والفقهي والسلوكي، ودعمه بكل ما يملك من وسائل؛ لا سيما الجانب السلوكي الذي حظي باهتمام واسع بما خُصص له من حيز كبير عبر القنوات التلفزية الرسمية، في شكل برامج وثائقية، ودروس الكراسي العلمية، وكذا نشر المجلات؛ كمجلة المجلس، وتأليف الكتب؛ ككتاب «التصوف السني وأعلامه بالمغرب» منشورات المجلس العلمي المحلي بالقنيطرة، وهو كتاب يضم أربع مباحث مستقلة عن بعضها. وكتاب «دليل الإمام والخطيب والواعظ» منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كما نشط عبر برامجه التأهيلية كسلسلة دروس التصوف التي نشرت ضمن «برنامج تأهيل أئمة المساجد في إطار خطة ميثاق العلماء» من إعداد وإشراف المجلس العلمي الأعلى.
إنها جهود كثيرة ليست وليدة اليوم؛ أهدرت من أجل تمييع العلاقة ليس بين التصوف والسلفية فحسب، بل وبين الأشعرية والسلفية…، وهي لا زالت تهدر في شكل حملة بل حملات بائسة تتأرجح بين هدف خطف مصطلح السلفية وغصبه ظلما من أصحابه الشرعيين السلفيين، وبين هدف تغييب خصوصياته بعد تفريغه من مضمونه الأصيل الذي يتحقق به التمييز، بحيث لا يعود تمة سلفي وبدعي، ولا بمقدور المرء التمييز بين البدعي والسلفي، وأنى يتسنى له ذلك والغاية من المشروع الجديد هو تمييع مصطلح السلفية بحيث يستوي قولك لا سلفي، مع قولك الكل سلفي.
أنظر مثلا محاضرات ندوة الرباط تحت عنوان: “السلفية.. تحقيق المفهوم وبيان المضمون” خاصة منها محاضرة (المذهب الأشعري مذهب السلف تأسيسا وتفريعا) لمحمد العمراوي، ومحاضرة ( الاتجاهـات السلفية المعاصرة أصولا وممارسة) لسعيد بيهي. إضافة إلى الدرس الحسني لمصطفى بن حمزة والذي تحت عنوان: (سلفية الأمة والتمثلات المغربية).
والخلاصة من هذه الحملات هي إسكات السلفي، وإذا ما تكلم وعارض الطوائف المخالفة، بعدما يجري عليها اسم السلفية وتنتحلها كذبا وبهتانا، صار في نظر العامة هو البدعي. هم يسعون الآن في بلادنا إلى أن تصير الأشعرية والصوفية في نظر الناس سلفية، حتى إذا ما غيرتا قيل غيرت السلفية، تحقيقا لقول عبد الله بن مسعود في تحذيره الأمة “كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يتخذونها سنة، وإذا غيرت قيل: غيرت السنة أو هذا منكر“.
فالفتنة في كلام ابن مسعود هي البدعة، سواء كانت أشعرية أو صوفية أو خارجية، أو إرجاء، أو أي بدعة كانت، فكلام ابن مسعود يحذر من آفة أن تجري على الناس زمننا خلاف عقيدة السلف كالأشعرية مثلا، وخلاف سلوكهم كالتصوف، حتى إذا ما صار في ظنهم أن ما هم عليه من أشعرية وصوفية هو عقيدة وسلوك السلف، وقام من يريد الإنكار عليهم، تنادوا وتصايحوا عليه يريد تغيير عقيدة السلف وسلوك السلف. إلا أن مما لا ينقضي منه عجبي هو سر حرص هؤلاء وإصرارهم على انتحال اسم السلف والسلفية، دون حرصهم على انتحال عقيدة السلف ومنهج السلف في التربية والسلوك، ولا أقول في التصوف. لأن منهج السلف في التربية والسلوك غير منهج التصوف في التربية والسلوك. ولا يخلط بين منهج التصوف في التربية والسلوك، وبين منهج السلف، إلا من تداخل عنده مدلول الزهد في مدلول التصوف.
على كل فكل هذه الجهود التي تمت وتتم والتي ستستمر، القصد منها إضفاء الشرعية على التصوف وربطه بالسنة والسلفية، في محاولة إقناع للخاصة وتذكير للعامة على أن هناك تصوفا سنيا ببلادنا، يتماشى مع مبادئ أهل السنة؛ تُستمد أصوله من القرآن والسنة وعمل الصحابة والسلف الصالح، قوامه التربية الراشدة بتهذيب النفس وتزكيتها، وأنه غير ذاك التصوف البدعي الخرافي الفلسفي الإشراقي.
ومن الأقوال التي أثارها الأستاذ الغلبزولي حول دعوى مسألة تقسيم التصوف إلى سني وغير سني قوله: (والتصوف من حيث الأصل ينقسم إلى تصوف فلسفي مذموم، وتصوف سني مقبول مقيد بالكتاب والسنة)1. وكذا قوله: (فالتصوف السني كتصوف الإمام أبي القاسم الجنيد البغدادي والحارث المحاسبي وسهل التستري وعبد القادر لجيلاني، والفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأمثالهم، والآخر هو التصوف الفلسفي البدعي الذي اختلط بالفلسفة والبدع و الخرافات، والاعتقاد في الحلول ووحدة الوجود)2. حيث كان مستنده في دعواه هذه يتمثل في مقاطع من صالح كلام بعض المتصوفة. ظاهرها أن مرجع القوم هو الكتاب والسنة. وذلك كما هو مبين في مثل بعض قوله: (وقد اتفق متقدمو الصوفية على التعويل التام على الكتاب والسنة واعتبارهما مصدرا التلقي والاستدلال الوحيدين، ويروى عنهم نصوص كثيرة في ذلك، فمن ذلك ما قاله بعض أئمتهم كأبي محمد الجنيد حيث قال: مذهبنا هذا مقيد بالأصول الكتاب والسنة. وقال أيضا: علمنا منوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به…)3.
إلا أن الذي كان ينبغي على الأستاذ الغلبزوري التنبه إليه والتنبيه عليه وعدم التغافل عنه عند سرد مثل هذه النقول والترويج لها، هو استحضار دون تجاهل أن صاحب هذا القول هو صوفي بالاتفاق. ونصوص الشريعة في المدلول الصوفي سواء سنيه وفلسفيه -زعموا- لها ظاهر وباطن، وباطنها يخالف ظاهرها. وهذا الباطن علم خاص بهم يطلقون عليه اسم العلم اللدني أو علم الحقيقة، أو علم الأسرار، وهذا يلزمنا عند الاستدلال بنقولهم، فَهْم حقيقة مرادهم منها ومدلول ألفاظهم، وحملها على المعنى المؤدي للمطلوب عندهم وفق هذا العلم الخاص بهم. لأن كل لفظ مما يتداوله الصوفية إلا ولهم فيه معنيان؛ معنى وفق العلم الشرعي، ومعنى وفق العلم اللدني. وهذا يعني أنهم يتداولون سرا بينهم. وحسبي في هذا قول القشيري الصوفي: “وهذه الطائفة يستعملون ألفاظا فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإجمال والستر على من باينهم في طريقتهم، لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن يشيع استعمالها في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، أو مجلوبة بضرب تصرف، بل هي معان أودعها الله قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم”4.
فخاصية هذه المعاني عندهم وميزتها التي تميزها عن باقي العلوم تكمن في أنهم يأخذونها عن الله بلا واسطة، كما إليه الإشارة في قول القشيري “بل هي معان أودعها الله قلوب قوم”، ويقول الغزالي في هذا: “كان أبو يزيد وغيره يقول: ليس العالم الذي يحفظ من كتاب، فإذا نسي ما حفظ صار جاهلا، إنما العالم الذي يأخذ علمه عن ربه أي وقت شاء؟ بلا حفظ و لا درس، و هذا هو العلم الرباني و إليه الإشارة (وعلمناه من لدنا علما) مع أن كل علم من لدنه، ولكن بعضها بوسائط تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علما لدنيا، بل اللدني الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف”5.
لكن مما يضيفه الغزالي حجة الإسلام الصوفي السني السلفي الأثري..!!!!! من بيان، هو كشفه أن هذا العلم الخاص بهم، من كشفه منهم وأداعه أبيح دمه، اسمع إليه وهو يقول معلقا على قول الناظم:
(يا رب جوهر علم لو أبوح به***لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي***يرون أقـبح ما يأتـونه حسنـا
فيعلق الغزالي بقوله: “والمراد بهذا العلم الذي يستحلون به دمه، هو العلم اللدني، الذي هو علم الأسرار، لا من يتولى من الخلفاء ومن يعزل كما قال بعضهم، لأن ذلك لا يستحل علماء الشريعة دم صاحبه ولا يقولون له أنت ممن يعبد الوتن…”)6.
وهذا أبو مدين الغوث المغربي يقول:
وفي السر أسرار دقاق لطيفة***تراق دمانا جهرة لو بها بحنا7
ويقول ابن عجيبة المغربي: “فإذا انفرد القلب بالله، وتخلص مما سواه، فهم دقائق التوحيد وغوامضه، التي لا يمكن التعبير عنها، وإنما هي رموز وإشارات لا يفهمها إلا أهلها، ولا تفشى إلا لهم وقليل ما هم، ومن أفشى شيئا من أسرارها مع غير أهلها فقد أباح دمه، و تعرض لقتل نفسه”8.
واسمع إلى أحمد التجاني دفين مدينة فاس الشيخ الأكبر وولي الله كما يلقبه عامة الصوفية يقول: “لو بحت بما علمه الله لي لأجمع أهل العرفان على قتلي”9.
فماذا عن تصوف القشيري يا الغلبزوري؟ وتصوف الغزالي؟ وأبو مدين الغوث، وابن عجيبة، والتجاني؟
هل تصوف هؤلاء سني سلفي؟
أم تصوفهم فلسفي؟
إياك ثم إياك فالسرعة تقتل.
لكن قناعتنا هي أن إرضاء هذا الاتجاه، أو مجاملة ذاك على حساب المنهج السلفي، مع إخفاء ما يجب بيانه أو تجاهله، خيانة عظمى للأجيال التي توالت وتناوبت وتوارثت الذود والدفاع عن حياض أهل السنة وحصون السلفية. الشيء الذي يجعلنا في ظل مثل هذا الواقع وفاء بالعهد أن يكون منهجنا مع كل من يسعى إلى تضليل العامة، والانحراف بهم يمينا أو شمالا هو: اسـكـتـوا نـسـكـت.
فإن علماء السلفية وحماة المنهج السلفي عَوَّدُونا -رحمهم الله- في مثل هذه الظروف أداء للأمانة على الإقدام لا الإحجام، وعلى الصبر والمواجهة بالمناظرات والنقاشات والردود العلمية لتوضيح الحقيقة، لا على اللف والدوران والمجاملة، قياما بواجب النصح، وحرصا على تصحيح المسار.
ثم أَو لا تعلم يا أستاذ أنه ليس كل من ادعى أن علمه مقيد بالكتاب والسنة، يكون قد استشهد بدليل معتبر، وذلك حتى يكون قوله قولا محكما لا يفتقر إلى ما يدل على المراد منه. وإلا كان قوله تمييعا يوهم العامة أن طريقه على أصول أهل السنة؟؟!!
لاسيما إذا ما استحضرنا يا أستاذ الغلبزوري أن ليس في المتصوفة من لم يزعم أن مرجعه هو الكتاب والسنة. حتى أولئك الذين تزعمون أن تصوفهم إشراقي فلسفي، كابن عربي مثلا.
فها هو نفسه يقول عن كتابه الفصوص: “أما بعد: فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُبشَّرةٍ أُريتها في العشر الأخير من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة، بمحروسة دمشق، وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم، خذْه واخْرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة…وجرَّدت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدَّه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان..”10.
وفي كتابه الأحاديث القدسية، ذكر أنه لما وقف على الحديث المروي في فضائل الأربعين، بمكة المكرمة، سنة 599هـ، جمعها بشرط أن تكون من المسندة إلى الله تعالى، ثم أَتْبعها أربعين عن الله تعالى مرفوعة إليه غير مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أردفها بأحد وعشرين حديثاً، فجاءت واحداً ومائة حديث إلهية11.
وأكد هذا الأمر الشعراني مقررا لهذا الادعاء بقوله: وكان (ابن عربي) متقيداً بالكتاب والسنة…12.
فما هو رأيك في الشعراني، هل هو صوفي سني، أم صوفي فلسفي؟
وحسبنا هذه النقول في إبطال وإسقاط دعوى تصور« تصوف سني» مستقل عن «تصوف بدعي» من كل اعتبار في قطع النزاع، وأن الاكتفاء بالاستدلال بقولهم أن طريقهم مقيدة بالكتاب والسنة لا يعتمد عليه إلا مخادع، أو مخدوع لا يعرف أصول التصوف، أو لا يعرف أصول السلفية، أو أنه ينشد تصوفا لا وجود له في عالم الواقع.
ثم أليس هناك طريقة صوفية من بين هذه الآلاف الطرق الصوفية الموجودة من بين العرب والعجم تمثل التصوف السني المزعوم.؟!!
لماذا لم يجرئ واحد من دعاة التقسيم على ذكر طريقة واحدة ينص على اسمها بعينها يقدمها بين يدي المتلقي، يتخذها نموذجا يحتذى بها في اختيار من هم يجسدون التصوف السني في واقعنا المعاصر حسب زعمهم؟!!
إنه من المستحيل أن تكون هناك طريقة صوفية تمثل بسلوكها التعبدي في واقعنا المعاصر تصوف سنيا، ولا يقدم على ذكرها واحد من هؤلاء؟!!
فهل هذا النوع من التصوف ليس له طرق تمثله في الحياة الواقعية؟
ونحن نسأل بكل صدق الأستاذ الغلبزوري: ما هي الطرق الصوفية في نظرك التي تمثل التصوف السني في واقعنا المعاصر وفي مجتمعنا الحاضر؟؟؟
أهي الطريقة التيجانية، أم هي الطريقة البودشيشية، أم هي الدرقاوية، أم هي الشاذلية، أم المشيشية، أم القادرية، أم النقشبندية، أم الرفاعية، أم السهروردية، أم الجنيدية، …، لا بد أن تقدموا لنا نموذجا واقعيا نبني عليه ونزن به ويثبت صدق ادعائكم. بل نحن نفتح لكم باب التاريخ على مصراعيه، حيث نطلب منكم أن تقدموا لنا اسم طريقة صوفية تمثل التصوف السني عبر التاريخ الإسلامي، من أي قرن من القرون الماضية شئتم، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا إن شاء الله، فسوف نقول لكم كفاكم تلبيسا، وكفاكم مراوغة، وكفاكم خداعا.
لا بد من وجود نموذج يُمَكِّن المتلقي من الفصل بين من يريد تحقيق مذهب أهل السنة، وبين من يتخذ دعوى التقسيم ذريعة يتترس بها قصد ترويج بدعة التصوف والتمهيد لها.
ـــــــــــــــ
(*) أعتذر للقراء على الإطالة فطبيعة الموضوع تتطلب أكثر من هذا التفصيل تبعا لنوع الشبهات الملقاة في طريق أهل السنة السلفيين. كما أرجو أن تكون القراءة بهدوء وإمعان وتركيز لأنه سيتم ربط القارئ في كل مقال بما قبله من مقالات. وجزاكم الله خيرا.
(1) محاضرة: السلفية والتصوف السني
(2) المرجع السابق
(3) المرجع السابق
(4) الرسالة القشيرية”، لعبد الكريم القشيري: ص52.
(5) إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي(ص3/33).
(6) اليواقت والجواهر ج 1 ص 28، للشعراني.
(7) إيقاظ الهمم في شرح الحكم ص: 39 دار الفكر.
(8) المرجع السابق ص 39.
(9) كشف الحجاب عمن تلاقى مع الشيخ التجاني من الأصحاب ص: 373. للعلامة السكيرج.
(10) فصوص الحكم ص:47
(11) الفتوحات المكية: 4/555 لابن عربي
(12) اليواقيت والجواهر: 1/6 للشعراني.
أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى إمام من أئمة أهل السنة و الجماعة، و الإمام الجنيد رحمه الله تعالى شهد له كبار العلماء في زمانه و من بعده بالتقوى و الصلاح ، فما المشكل؟