الترحيب بنقد الأستاذ الحبيب (حماد القباج)
د. البشير عصام
هوية بريس – السبت 22 غشت 2015
أطلعني بعض الأفاضل على مقالة دبجتها يراعة الأستاذ الداعية الغيور على دينه وأمته: حماد القباج -كان الله له بإحسانه- يرد فيها على منشور فيسبوكي -نشر على هيئة مقال في موقع هوية برس فيما بعد- لخصتُ فيه رأيي في الانتخابات على سبيل الاختصار والإشارة.
وقد وجدت في مقالته أريج الأدب الرفيع، وعبق المودة الإسلامية، وحفظ حقوق الأخوة عند الاختلاف في الرأي.
فمرحبا بِردّ يكون على هذا النهج اللاحب القويم، وشكر الله لكاتبه هذه اللفتة التربوية التي هي -في رأيي- من أعظم ما يستفاد من هذه المقالة.
وليت بعض الأتباع يستفيدون من الأدب كما يستفيدون من العلم، فإن آفة النقاشات العصرية في المسائل الاجتهادية: التعصب للرأي، واتهام النيات، ووصم المخالف بالجهل واتباع الهوى.
والحق أنني لم أكن أتوقع من الأستاذ غير ذلك، لما يبلغني عنه من لطيف الصدى، وجميل الأثر. وإن كنت في نفسي أقل من أن يكلف الأستاذ عناء تعكير إجازته من أجل الرد على مقالي!
وبيان رأيي التفصيلي فيما ورد في مقال الأستاذ القباج، يحتاج إلى وقت وجهد لا أجدهما الآن، وقد ذكرت رأيي بتفصيل في كتابي ”العلمنة من الداخل”، فليراجعه من أراد ذلك مشكورا.
ولذلك فإنني أكتفي هنا بتعقيبات يسيرة، أرجو من ورائها أن نفجر عين الاتفاق الثرة من صخرة الاختلاف، فيكون للناظر في هذه المقالات مجال رحب لتبيّن ما يجب عليه أن يعتقده ويعمله، وما يجوز من ذلك، وما يحرم.
ومهمة العالم بيان الحق، وحماية الدين. ولذلك فلست أدعو لمقاطعة الانتخابات من منطلق سياسي خالص – كما تفعل هيئات وجماعات – ولكن الذي يهمني حقا، هو أن أؤدي شيئا من الأمانة الملقاة على عاتقي: أمانة البيان.
ولذلك، فهنا أمور من صميم الشرع الإسلامي صارت -عند كثير من أتباع الحركة الإسلامية- مجهولة أو منسية في زحام التدافع السياسي. وهي أمور لا أشك أن الأستاذ القباج يوافق عليها، ولكنني أكاد أجزم أن كثيرا من المشاركين في الانتخابات، الذين يسوّق لهم خطاب الدعوة إلى المشاركة، مجرّدا عن سباقه الشرعي ولحاقه = يجهلونها أو لا يوافقون عليها!
وهذا مربط الفرس عندي، وركن القضية الركين، وأساسها المتين، وكل ما سواه: تبع له وفرع عنه. وذلك أن هذه الأمور -التي سأذكرها بعد سطور- إذا عُلمت وضبطت عند كافة المشاركين، صار للنظر في المصالح والمفاسد مجال واسع، يدخله الاجتهاد في تحقيق المناط، وصار لتلك الفتاوى التي تنقل -ولا ينقل في الغالب ما يخالفها، وهو موجود- مجال للإعمال والتنزيل.
ولست أقول إنني حينئذ أوافق على المشاركة مطلقا، ولكنني أقول إن مجال النظر والنقاش الفقهي يصبح ممكنا، بعد الخروج من إطار الإجماع إلى سعة الخلاف.
هذه الأمور التي يقصّر علماؤنا ودعاتنا وقادة الحركة الإسلامية في بيانها هي:
أولا: الحكم الشرعي للديمقراطية = بمعنى سيادة الشعب؟ وحكم القانون الذي يوافق عليه عموم الشعب والحال أنه مخالف لقطعي من قطعيات الدين؟ (والفرار إلى نحو: ”الشعب مسلم، ولن يقع منه ذلك” = وهم كبير دلّ الواقع على أنه خطأ).
ثانيا: وجوب تحكيم الشريعة، والتركيز على أن هذا هو الغاية الكبرى التي قامت الحركة الإسلامية لتحقيقها.
ثالثا: بيان مفاسد الديمقراطية الإجرائية (أي: نفس آلية الانتخابات) ومشكلاتها المشهورة، المعروفة منذ زمن فلاسفة اليونان، فضلا عن غيرهم! (مثلا: التسوية في قيمة الصوت بين أعظم العلماء والمفكرين وأتفه المجرمين والحشاشين!).
رابعا: بيان أن القول بجواز المشاركة السياسية خلافيّ لا إجماعي، وأنه رخصة مخالفة للأصل، مبنية على ”فقه الضرورة”، لا على ”فقه السعة”.
خامسا: التنبيه على رفض الأسس العلمانية التي لا تنفك الديمقراطية عنها، من حرية ومساواة وحقوق للإنسان (كل هذا بمفهومه الغربي)، ونحو ذلك مما يلتبس معناه في أذهان الناس، لكثرة ما يسمعونه من أفواه المشاركين في المسلسل الانتخابي، دون أن تعادل كفة الميزان بأقوال العلماء والدعاة المغيّبين قسرا أو الغائبين اختيارا!
وسؤالي هو:
مَن -مِن قادة الحركة الإسلامية اليوم- يصرّح بهذه الأمور للمصوّتين؟
ومن ينشر هذا العلم بين الناس بنفس القوة والوضوح الذي ينشر به حكم المشاركة ووجوبها؟
وكيف للشباب الغافلين عن دينهم، الذين يأخذون أغلب علمهم من اليوتيوب أو من مواقع التواصل، أن يعرفوا هذه القضايا الجوهرية، إذا كانوا يقتاتون فقط على فتاوى وجوب – أو جواز – المشاركة، وعلى الحملات الانتخابية الداعية إلى المشاركة؟
هذا لبّ القضية في نظري، وهو الذي من أجله كتبت منشوري السابق. فإنني قد صار يؤرقني ما أراه من انتشار مَرَضي للعلمانية في جسد الحركة الإسلامية، وما صرت أسمعه على أفواه بعض قادتها أو بعض الدعاة من تأصيلات ”علمانية” خطيرة، ما كنا نسمعها قبل عقود إلا من عتاة العلمانيين.
وهذه هي ضريبة المشاركة..
وهذه هي مفسدتها الكبيرة التي يغفل عنها بعض المتحدثين في الموضوع..
الميزان الحقيقي للمصالح والمفاسد هو: ما نسبة ”العلمنة” التي سنقبل بها في جسد الحركة الإسلامية، في مقابل المصالح التي نرجوها؟
وتجربة حزب ”النور” أمامنا تنضح بالعبر والمواعظ!!
وبعد بيان هذا الأمر فلنرجع إلى قضية أخرى: قضية البديل.
الحق أن البديل موجود ومؤثر.
وأوضح مثال على ذلك أن الثورات التي أسقطت الظلم في العالم العربي، وهلّل لها الكثيرون، لم تكن عن طريق الصناديق أصلا.
ولست أقول إن المطلوب هو الثورة، ولكنني أقول: إن المدافعة الشعبية والجمعوية والإعلامية والفكرية والعلمية وفي مواقع التواصل، أعظم تأثيرا من ”الملاسنات” داخل قبة البرلمان! وهذا مشاهد لا يُشك فيه. والنماذج في المغرب على إسقاط مشروعات بسبب بوادر السخط الشعبي عليها = أكثر من أن تحصى (ولنتذكر مثلا ”الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”).
بل حتى في الغرب -حيث النظام الديمقراطي مستقر- يبقى الإعلام والانترنت ونبض الشعب والمجموعات الضاغطة (اللوبيات)، هي الأمور المؤثرة حقا في توجهات السياسيين. فتراهم يراعونها ما أمكن، تحصيلا للأصوات أو درءا للفتن.
ثم هنا قضية أخرى متعلقة بما ذكره الأستاذ -وفقه الله- عن تأثير ترك المشاركة السياسية في إيجاد الغلو بين الشباب.
والحق أن القضية بعكس ذلك!
فالذي يوجِد الغلو -إلى جانب أسباب أخرى ذاتية وموضوعية مختلفة- هو أن تُنشر بين الشباب آمال التغيير عن طريق العمل السياسي الديمقراطي، ثم يتبين لهم بعد حين أن الطريق للتغيير بهذه الوسيلة مسدود! فتدفعهم خيبة الأمل الحارقة إلى تبني الخيارات الأكثر عنفا وغلوا.
هكذا كانت تجربة الجزائر في عشر التسعين من القرن الماضي، وهكذا هي تجربة مصر اليوم: أحلام ديمقراطية عاتية / اصطدام بالواقع الدولي والمحلي الرافض للتغيير نحو الشريعة / المفاصلة والغلو والعنف!
أما التجربة التركية فلي فيها رأي يحتاج إلى تفصيل كثير، لا يسمح به هذا المقام!
وفي الختام، فإن الموضوع طويل الذيول حقا، ولا يمكن الإحاطة به في مقال ولا مقالات. ولكنني أردت التنبيه باختصار على ما لا يسعني السكوت عليه، لأنني مسكون بهاجس حراسة مفاهيم الدين من الانحراف، الذي أرى رقعته تزيد كل يوم، حتى صارت الحركة الإسلامية اليوم تختلف في كثير من شعاراتها عن حركة الرعيل الأول من مؤسسي التيار الإسلامي في عموم الأمة.
أما الخيام فإنها كخيامهم***وأرى نساء الحي غير نسائها
وبعد:
فإنني أرجو ألا أكون قد أفسدتُ بتطاولي في هذا البيان ودًّا أرجو امتداده بيني وبين فضيلة الأستاذ القباج -حفظه الله-، وعذري أنني أعلم رحابة صدره، ودماثة خلقه، وقبوله للخلاف والاعتراض، ولو ممن كان في مقام تلامذته ومحبيه.
والله يوفقني وإياه لما فيه رضوانه.